تفسيرة سورة الرحمن

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 3 جمادى الأولى 1438هـ | عدد الزيارات: 1870 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد

سورة الرحمن مكية ، وآياتها 78

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنُ

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

هذه السورة الكريمة الجليلة، افتتحها باسمه الرَّحْمَنُ الدال على سعة رحمته، وعموم إحسانه، وجزيل بره، وواسع فضله ، ثم ذكر ما يدل على رحمته وأثرها الذي أوصله الله إلى عباده من النعم الدينية والدنيوية والآخروية وبعد كل جنس ونوع من نعمه، ينبه الثقلين لشكره، ويقول:(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فذكر أنه (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ؛ لأنه أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانة، كيف لا وهو مدار للسعادة الدينية والدنيوية، لذا علَّم عبادَه ألفاظه ومعانيه، ويسرها على عباده، وهذا أعظم منة ورحمة رحم بها عباده، حيث أنزل عليهم قرآنا عربيا بأحسن ألفاظ، وأحسن تفسير، مشتمل على كل خير، زاجر عن كل شر .(خَلَقَ الإنْسَانَ) إنشاؤه على ما هو عليه، في أحسن تقويم، كامل الأعضاء، مستوفي الأجزاء، محكم البناء، قد أتقن البديع تعالى خلقه أي إتقان، وميزه على سائر الحيوان بأن (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) هذا شامل للتعليم النطقي وذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعه من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها والتعليم الخطي أيضاً، فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجل نعمه، وأكبرها عليه .(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) أي: خلق الله الشمس والقمر، وسخرهما يجريان متعاقبين بحساب مقنن، وتقدير مقدر، لا يختلف ولا يضطرب، رحمة بالعباد، وعناية بهم، وليعرف العباد عدد السنين والحساب .(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) أي: نجوم السماء، وأشجار الأرض، تعرف ربها وتسجد له، وتطيع وتخشع وتنقاد لما سخرها له من مصالح عباده ومنافعهم .(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) سقفها للمخلوقات الأرضية، ووضع الله الميزان أي: العدل بين العباد، في الأقوال والأفعال، ويدخل فيه الميزان المعروف، والمكيال الذي تكال به الأشياء والمقادير، والمساحات التي تضبط بها المجهولات، والحقائق التي يفصل بها بين المخلوقات، ويقام بها العدل بينهم، فقال (أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) أي: أنزل الله الميزان، لئلا تتجاوزوا الحد في الميزان، فإن الأمر لو كان يرجع إلى عقولكم وآرائكم، لحصل من الخلل ما الله به عليم، ولفسدت السماوات والأرض، لكن الله خلق السموات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل ولهذا قال (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي: اجعلوه قائما بالعدل، الذي تصل إليه مقدرتكم، (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) أي: لا تنقصوه وتعملوا بضده، وهو الجور والظلم والطغيان .(وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) أي:كما رفع السماء وضع الأرض ومهدها، وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات، لتستقر لما على وجهها من الأنام، وهم:الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم، في سائر أقطارها وأرجائها .(فِيهَا فَاكِهَةٌ) أي: مختلفة الألوان والطعوم والروائح (وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ) أفرده بالذكر لشرفه ونفعه، رطبا ويابسا، وهو الذي يطلع فيه القنو ثم ينشق عن العنقود، فيكون بسرا ثم رطبا، ثم ينضج ويتناهى يَنْعُه واستواؤه .(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) أي: الحب الذي ينتفع بتبنه للأنعام وغيرها، ويدخل في ذلك حب البر والشعير والذرة والأرز وغير ذلك، ( وَالرَّيْحَانُ ) هو الريحان المعروف .(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) أي: النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها .فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة، فما مر بقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) إلا قالوا ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد، رواه الترمذي وحسنه الألباني فهذا الذي ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه، أن يقر بها ويشكره ويحمده عليها .

خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)

وهذا من نعمه تعالى على عباده، حيث أراهم من آثار قدرته وبديع صنعته، أن (خَلَقَ الإِنْسَانَ) أبا الإنس وهو آدم عليه السلام من تراب ثم جعله طيناً لازباً ثم حمأ مسنون ثم (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) أي: من طين يابس كالفخار .(وَخَلَقَ الْجَانَّ) أي: أبا الجن، وهو إبليس اللعين (مِنْ مَارِجٍ) من لهب صاف (مِنْ نَارٍ) وروى الإمام مسلم عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي من الطين .ولما بين خلق الثقلين ومادة ذلك وكان ذلك منة منه تعالى على عباده قال: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)

أي: مشرقي الشمس شتاء وصيفا، ومغربيها كذلك وهذا المراد منه جنس المشارق والمغارب، ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب، مصالح للخلق من الجن والإنس قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) .

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) أي أرسلهما من مرجة الدابة إذا أرسلتها، والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب (يَلْتَقِيَانِ) أي يتجاوران ويتماس سطوحهما، لا فصل بينهما في مرأى العين، (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ) أي حاجز من قدرة الله عز وجل، (لا يَبْغِيَان) أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، وإبطال الخاصية .وقوله تعالى(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) أي: من مجموعهما، فإذا وجد ذلك لأحدهما كفى .فنسب خروجهما إلى البحرين، مع أنهما إنما يخرجان من الملح، لأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ساغ إن يقال يخرجان من البحر، مع أنهما لا يخرجان من جمع البحر ولكن من بعضه اللؤلؤ معروف، والمرجان الخرز الأحمر، وهو قول عبد الله بن مسعود.

وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)

أي: وسخر تعالى لعباده السفن الجواري، التي تمخر البحر وتشقه بإذن الله، التي ينشئها الآدميون، فتكون من كبرها وعظمها كالأعلام، وهي الجبال العظيمة، فيركبها الناس، ويحملون عليها أمتعتهم وأنواع تجاراتهم، وغير ذلك مما تدعو إليه حاجتهم وضرورتهم، وقد حفظها حافظ السماوات والأرض، وهذه من نعم الله الجليلة، فلذلك قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ .

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)

أي: كل من على الأرض، من إنس وجن، ودواب، وسائر المخلوقات، يفنى ويموت ويبيد ويبقى الحي الذي لا يموت ،وفي الدعاء المأثور (يا حي، يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث ، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك) رواه الترمذي وحسنه الألباني (ذُو الْجَلالِ) أي:ذو العظمة والكبرياء والمجد،(والإكرام) الذي هو سعة الفضل والجود ، وفي الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى بما يليق به سبحانه دون تشبُّه ولا تكييف .

يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

وهذا إخبار عن غناه عما سواه فهو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، وهو واسع الجود والكرم، فكل الخلق مفتقرون إليه، يسألونه جميع حوائجهم، بحالهم ومقالهم، ولا يستغنون عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك، وهو تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) يغني فقيرا، ويجبر كسيرا، ويعطي قوما، ويمنع آخرين، ويميت ويحيي، ويرفع ويخفض، لا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين، ولا طول مسألة السائلين، فسبحان الكريم الوهاب، الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات، وعم لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين، ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه، وهذه الشئون التي أخبر أنه تعالى كل يوم هو في شأن، هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الأزل وقضاها، لا يزال تعالى يمضيها وينفذها في أوقاتها التي اقتضته حكمته، وهي أحكامه الدينية التي هي الأمر والنهي، والقدرية التي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار، حتى إذا تمت هذه الخليقة وأفناهم الله تعالى وأراد تعالى أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء، ويريهم من عدله وفضله وكثرة إحسانه، ما به يعرفونه ويوحدونه، نقل المكلفين من دار الابتلاء والامتحان إلى دار الحيوان .وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال: من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين. رواه ابن ماجه وحسنه الألباني .

وقوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) .

سنحاسبكم ، وهو سبحانه لا يشغله شيء عن شيء ، وهو معروف في كلام العرب، يقال :(لأتفرغنَّ لك) وما به شغل ، وقوله:(أَيُّهَا الثَّقَلانِ) الثقلان: الإنس والجن، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ).

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ (33)

أي: لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره، بل هو محيط بكم، لا تقدرون على التخلص من حكمه، ولا النفوذ عن حكمه فيكم، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام المحشر، والملائكة مصطفين لا يشفعون إلا لمن أذن له الرحمن في الشفاعة وقال حقاً وسداداً ، ذلك اليوم الحق الذي لا ريب في وقوعه، فلا يقدر أحد على الذهاب (إِلا بِسُلْطَانٍ) أي: إلا بأمر الله ؛ ولهذا قال: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) ، يرسل عليكم لهب من نار ونحاس مذاب يصب على رؤوسكم فلا ينصر بعضكم بعضا .

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ) يوم القيامة، كما دلت عليه هذه الآية مع ما شاكلها من الآيات الواردة في معناها .وقوله: (فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) أي: تذوب كما يذوب الدّرْدي والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم .

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ)

لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا؟

وقوله تعالى (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) بعلامات تظهر عليهم، (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ ) أي: فيؤخذ بنواصي المجرمين وأقدامهم، فيلقون في النار .

هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ( 43 ) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

أي: يقال للمكذبين بالوعد والوعيد حين تسعر الجحيم تقريعاً وتوبيخاً وتصغيراً وتحقيراً لهم (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ)(يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي: تارة يعذبون في الجحيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو شراب كالنحاس المذاب، يقطع الأمعاء والأحشاء .وقوله (آن) أي: حار قد بلغ الغاية في الحرارة، فلا يستطاع من شدة ذلك .(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ولما ذكر ما يفعل بالمجرمين، ذكر جزاء المتقين الخائفين فقال:

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ( 54 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( 56 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ ( 60 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) .

قوله تعالى (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) هذا لمن خاف مقامه بين يدي الله عز وجل يوم القيامة ، روى البخاري عن عبد الله بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداءُ الكِبْرِ على وجهه في جنة عدن) . ومن أوصاف تلك الجنتين أنهما ( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ) أي: فيهما من ألوان النعيم المتنوعة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ففيهما الأشجار الكثيرة الزاهرة ذوات الغصون الناعمة، التي فيها الثمار اليانعة الكثيرة اللذيذة .وفي تلك الجنتين (عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ) أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان، قال الحسن البصري: إحداهما يقال لها تسنيم والأخرى السلسبيل، ولهذا قال بعد هذا فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ من جميع أصناف الفاكهة (زَوْجَانِ) أي: صنفان، كل صنف له لذة ولون، ليس للنوع الآخر ، فعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُما قال : ليسَ في الجنَّةِ شيءٌ مِمَّا في الدُّنيا إلَّا الأسماءُ . يعني بين ذلك بوناً عظيماً وفرقاً بيِّناً في التفاضل (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) هذه صفة فرش أهل الجنة وجلوسهم عليها، وأنهم متكئون عليها، أي: جلوس تمكن واستقرار وراحة، وتلك الفرش، لا يعلم وصفها وحسنها إلا الله عز وجل، حتى إن بطائنها التي تلي الأرض منها، من إستبرق، وهو أحسن الحرير وأفخره، فكيف بظواهرها التي تلي بشرتهم؟ وقوله (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ) الجنى: هو الثمر المستوي، أي وثمر هاتين الجنتين قريب التناول يناله القائم والقاعد والمضطجع (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك (فِيهِن) أي في الفرش، (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) أي غضيضات عن غير أزواجهن، فلا يرين شيئا أحسن في الجنة من أزواجهن .(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) أي: بل هن أبكار عرب أتراب، لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن وهذه أيضا من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة.قال أرطاة بن المنذر:سئل ضَمْرَةُ بن حبيب:هل يدخل الجن الجنة؟ قال:نعم، وينكحون ، للجن جنيات، وللإنس إنسيات وذلك قوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) .ثم قال:(كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) في صفاء الياقوت وبياض المرجان ، وعن أبي هريرة ، رضى الله عنه قال : عن النبي صلى الله عليه وسلم:(أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ علَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، والذينَ علَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّمَاءِ إضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ علَى قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ، لا تَبَاغُضَ بيْنَهُمْ ولَا تَحَاسُدَ، لِكُلِّ امْرِئٍ زَوْجَتَانِ مِنَ الحُورِ العِينِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِنَّ مِن ورَاءِ العَظْمِ واللَّحْمِ).رواه البخاري

وقوله: ( هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ ) أي: ما لمن أحسن في الدنيا العمل إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة .ولما كان في الذي ذُكِرَ نعم عظيمة لا يقاومها عمل، بل مجرد تفضل وامتنان، قال بعد ذلك كله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن قال تعالى (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين ، قال: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني وقال هناك (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) وهي: الأغصان وتلك الجنتان (مُدْهَامَّتَانِ) قد اسودتا من الخضرة، من شدة الري من الماء وقال هناك (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ) وقال هاهنا (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ) أي: فياضتان. والجري أقوى من النضخ .وقال هناك (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) وقال هاهنا (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة، وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم؛ ولهذا فسر قوله (وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) من باب عطف الخاص على العام، كما قرره البخاري وغيره، وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما .(فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) خيرات جمع خيرة، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخُلُق الحسنة الوجه، قاله الجمهور .(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)وهناك قال (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) ولا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت، وإن كان الجميع مخدرات .وقوله (فِي الْخِيَامِ) روى البخاري عن عبد الله بن قيس، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهلٌ ما يَرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون)، (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) تقدم مثله سواء، إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فََبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) متكئين على وسائد ذواتي أغطية خضر.(وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) وفرش بديعة فائقة الصنع في غاية الحسن

فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة؛ فإنه قد قال هناك: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها ، اكتفاءً بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى. وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام، ثم الإيمان. فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخيريين ، ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين .ثم قال: ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ ) أي:هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى .

تم تفسير سورة الرحمن ولله الحمد والفضل والمنة

2 - 5 - 1438هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
روابط ذات صلة
الدرس السابق
الدروس الكتابية المتشابهة الدرس التالي