الدرس الخمسون: الحديث 40 اغتنامُ الدُّنيا للفوزِ بالآخرة

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 28 شعبان 1437هـ | عدد الزيارات: 2331 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

" عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمنْكبيَّ فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ" ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُوْلُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ. وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لمَوْتِكَ. رواه البخاري

راوي الحديث

عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عَدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهر بن مالك بن النَضْر بن كنانة بن خزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضَر بن نِزار بن معد بن عدنان

أمه: زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمع بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النَضْر بن كنانة بن خزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضر بن نِزار بن معد بن عدنان

زوجاته وأولاده

صَفية بنت أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمر ين عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف الثقفية، وأنجبت له: أبا بكر، وأبا عبيدة، وواقد، وعبد الله، وعمر، وحفصة وسودة

أم علقمة بنت علقمة بن ناقش بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضْر بن كنانة بن خزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضر بن نِزار بن مَعد بن عدنان، الفهرية القرشية، وأنجبت له: عبد الرحمن وبه كان يكنى

أم ولد وقيل هي ابنة يزدجرد بن شهريار، وأنجبت له فيما يقال: سالما، وعبيد الله وحمزة

أم ولد، وأنجبت له فيما يقال: زيدا، ويروى أن أم زيد هي: سهلة بنت مالك بن الشحاح من بني زيد بن جشم بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نِزار بن معد بن عدنان، وأنجبت له: عائشة وبلال

أم ولد، وأنجبت له فيما يقال: أبا سلمة وقلابة

سيرته

ولد قبل البعثة بعام وأبوه لم يسلم بعد، وما إن أصبح يافعا كان والده عمر بن الخطاب قد أسلم، وكان أشبه ولد عمر بعمر وأسلم بمكة مع أبيه، ولم يكن بلغ يومئذ، وكانت هجرته قبل هجرة أبيه

كان حريصا كل الحرص على أن يفعل ما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يفعله لتقواه، طلب منه الخليفة عثمان بن عفان أن يشغل منصب القضاء فاعتذر لورعه، وكان ابن عمر رجلاً آدم جسيماً ضخماَ، يقول ابن عمر: إنّما جاءتنا الأدْمة - أي السمرة- من قبل أخوالي، والخال أنزعُ شيء، وجاءني البُضع - أي الغريزة - من أخوالي، فهاتان الخصلتان لم تكونا في أبي رحمه الله، كان أبي أبيض، لا يتزوّج النساء شهوةً إلا لطلب الولد) روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم 1630 حديثاً

توفى بمكة وعمره أربع وثمانون وقيل سبعة وثمانون سنة ودفن بفخ في مقبرة المهاجرين نحو ذي طوى وقيل بالمحصب وقيل بسرف وهو آخر من مات من الصحابة بمكة إذ مات سنة 73 هـ وقيل 74 هـ

أهمية الحديث

هذا حديث شريف، عظيم القدر، جليل الفوائد، جامع لأنواع الخير، وجوامع المواعظ، وهو أصل في قِصَر الأمل في الدنيا، فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً يطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر، يهيء جهازه للرحيل، ويستعد ليوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم

الشرح

قول ابن عمر (أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمنْكبيَّ) أي أمسك، (بِمنْكبيَّ) ومنكبي: بتشديد الياء، مثنى منكب، أي أمسك بكتفي من الأمام. وذلك من أجل أن يستحضر مايقوله النبي صلى الله عليه وسلم وقال (كُنْ فِي الدُّنِيا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ) فالغريب لم يتخذها سكناً وقراراً، وعابر السبيل: لم يستقر فيها أبداً، بل هو ماشٍ

وعابر السبيل أكمل زهداً من الغريب، لأن عابر السبيل ليس بجالس، والغريب يجلس لكنه غريب

قوله صلى الله عليه وسلم (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابرُ سَبِيْلٍ) وهذا يعني الزهد في الدنيا، وعدم الركون إليها، لأنه مهما طال بك العمر فإن مآلك إلى مفارقتها. ثم هي ليست بدار صفاء وسرور دائماً، بل صفوها محفوف بكدرين، وسرورها محفوف بحزنين كما قال الشاعر

لا طيبَ للعيشِ مَادامت منغّصةً ... لذاتُهُ بادْكارِ الموتِ والهَرَمِ
إذاً كيف تركن إليها؟ كن فيها كأنك غريب لا تعرف أحداً ولا يعرفك أحد، أو عابر سبيل أي ماشٍ لا تنوي الإقامة، قال الإمام أبو الحسن علي بن خلف في شرح البخاري: قال أبو الزناد معنى هذا الحديث الحض على قلة المخالطة وقلة الاقتناء والزهد في الدنيا، قال أبو الحسن: بيان ذلك أن الغريب قليل الانبساط إلى الناس مستوحش منهم إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه ويأنس به ويستكثر من مخالطته فهو ذليل خائف، وكذلك عابر السبيل لا ينفذ في سفره إلا بقوته عليه، وخفته من الأثقال غير متشبث بما يمنعه من قطع سفره ليس معه إلا زاد وراحلة يبلغانه إلى بغيته من قصده
وَكَانُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُوْلُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. رواه البخاري
هذه كلمات من ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ والمعنى: اعمل العمل قبل أن تصبح ولا تقل غداً أفعله، لأن منتظر الصباح إذا أمسى فإنه يؤخر العمل إلى الصباح، وهذا خطأ، فلا تؤخر عمل اليوم لغد

قول ابن عمر (وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ) أي اعمل وتجهّز
قول ابن عمر (وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ) فالإنسان إذا كان صحيحاً تجده قادراً على الأعمال منشرح الصدر، يسهل عليه العمل لأنه صحيح، وإذا مرض عجز وتعب، أو تعذر عليه الفعل

قول ابن عمر (وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ) الحي موجود قادر على العمل، وإذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، فخذ من الحياة للموت واستعد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ينبغي للإنسان أن يجعل المال كأنه حمار يركبه، أو كأنه بيت الخلاء يقضي فيه حاجته فهذا هو الزّهد. وبعض الناس اليوم يجعلون المال غاية فيركبهم المال، ويجعلونه مقصوداً فيفوتهم خير كثير

وقال بعضهم: قد ذم الله تعالى الأمل وطوله وقال (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الحجر: 3

وقال علي رضي الله عنه (ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل) رواه البخاري

وقال أنس رضي الله عنه: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً فقال (هذا الإنسان وهذا الأمل وهذا الأجل فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب) رواه البخاري، وهو أجله المحيط به وهذا تنبيه على تقصير الأمل واستقصار الأجل خوف بغتته ومن غيب عنه أجله فهو جدير بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه في حال غرة وغفلة فليروض المؤمن نفسه على استعمال ما نبه عليه ويجاهد أمله وهواه فإن الإنسان مجبول على الأمل

فوائد الحديث

أولاً: الزهد في الدنيا وعدم اتخاذها دار إقامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ

ثانياً: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم بضرب الأمثلة المقنعة، لأنه لو قال ازهد في الدنيا ولا تركن إليها وما أشبه ذلك لم يفد هذا مثل ما أفاد قوله صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَريْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ

ثالثاً: فعل ما يكون سبباً لانتباه المخاطب وحضور قلبه، لقول ابن عمر (أَخَذَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمنْكَبَيَّ) وقد تنبه ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى إلى هذا الدرس النبوي الكريم فقال: ومنه مسُ المعلم أو الواعظ بعض أعضاء المتعلم أو الموعوظ عند التعلم، ونظيره قول ابن مسعود رضي الله عنه: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه. أخرجه البخاري، وحكمة ذلك ما فيه من التأنيس والتنبيه والتذكير إذ محال عادة أن ينسى من فُعل ذلك معه وهذا لا يُفعل غالباً إلا مع من يميل إليه الفاعل، ففيه دليل على محبته صلى الله عليه وسلم لابن عمر وابن مسعود

رابعاً: فناء الدنيا وبقاء الآخرة إذ يعيش الإنسان في هذه الدنيا ما أراد الله أن يعيش، ثم هو لا بد يوماً من الأيام أن يموت (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ) آل عمران: 185، (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) فهذه الدنيا فانية مهما طال عمر الإنسان

خامساً: الدنيا معبر للآخرة وطريق والمؤمن إما غريب فيها أو عابر سبيل، فهو لا يركن إليها، قال الحسن البصري: المؤمن كالغريب لا يجزع من ذل الدنيا، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن

سادساً: ينبغي للعاقل مادام باقياً والصحة متوفرة أن يحرص على العمل قبل أن يموت فينقطع عمله إلا من ثلاث

سابعاً: فضيلة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث تأثر بهذه الموعظة من رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثامناً: على المسلم أن يبادر إلى فعل الخير، والإكثار من الطاعات والمبرات، فلا يُهمل ولا يُمهل، على أمل التدارك في المستقبل

تاسعاً: في الحديث حث على الزهد في الدنيا، والإعراض عن مشاغلها، وعدم التعلق بها والاشتغال بها عن عمل الآخرة

عاشراً: شأن المسلم أن يجتهد في العمل الصالح، ويكثر من وجوه الخير، مع خوفه دائماً من عقاب الله فيزداد عملاً ونشاطاً، شأن المسافر الذي يبذل جهده في الحذر والحيطة

الحادية عشرة: الحذر من صحبة الأشرار، الذين هم بمثابة قطاع الطرق كي لا ينحرفوا بالمسلم عن مقصده، ويحولوا بينه وبين الوصول إلى مقصده وغايته

الثانية عشرة: العمل الدنيوي واجب لتحصيل النفع، والمسلم يسخر ذلك كله من أجل الآخرة

نسأل الله أن يلطف بنا وأن يزهدنا في الدنيا وأن يجعل رغبتنا فيما لديه إنه جواد كريم غفور رحيم

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

1437-8-28 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر