سورة يونس، عليه السلام، مكية، وعدد آياتها (109)
بسم الله الرحمن الرحيم
{الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)}.
{ الر ۚ } " الر " و " حم " و " ن " حروف اسم الرحمن ، وقد سبق الكلام في حروف التهجي
{تلك آيات الكتاب الحكيم} أي: هذه، وأراد بالكتاب الحكيم القرآن. و{الحكيم}: المحكم بالحلال والحرام، والحدود والأحكام .
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } [2]
قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} العجب: حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة .
وسبب نزول الآية : أن الله عز وجل لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا قال المشركون : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا . فقال تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ } يعني : أهل مكة ، الألف فيه للتوبيخ ، {عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، {أن أنذر الناس} أي : أعلمهم مع التخويف، {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } أي: أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم .
{قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} أي: مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم ، رجلا من جنسهم ، بشيرا ونذيرا، {قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} أي : ظاهر، وهم الكاذبون في ذلك .
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)}.
قوله عز وجل:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} خلق السماء في يومين والأرض في أربعة أيام{ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ } العرش أعظم المخلوقات وسقفها {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۖ } يقضيه وحده، {مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ۚ } معناه : أن الشفعاء لا يشفعون إلا بإذنه ، وهذا رد على النضر بن الحارث فإنه كان يقول : إذا كان يوم القيامة تشفعني اللات والعزى .
قوله تعالى : {ذلكم الله ربكم} يعني : الذي فعل هذه الأشياء ربكم لا رب لكم غيره ، { فاعبدوه أفلا تذكرون } تتعظون.
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ۖ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)}
قوله: {إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا } أي : وعدكم وعدا حقا ( إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) أي : يحييهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } بالعدل، {والذين كفروا لهم شراب من حميم} ماء في منتهى الحرارة ، { وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } .أي:عذاب شديد بسبب كفرهم .
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)}
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً } جعل الشمس ذات ضياء نهارا، {وَالْقَمَرَ نُورًا} والقمر ذا نورليلا ، {وقدره منازل} أي : وقدر القمر منازل ، فأول ما يبدو صغيرا ، ثم يتزايد نوره وجرمه ، حتى يكمل إبداره ، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأول في تمام شهر.
{لتعلموا عدد السنين والحساب} فبالشمس تعرف الأيام ، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام . {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} أي : لم يخلقه باطلا بل إظهارا لصنعه ودلالة على قدرته. {يفصل الآيات} أي: يبين الحجج والأدلة {لقوم يعلمون} إذا تدبروها.
{إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)}
قوله: {إن في اختلاف الليل والنهار}أي : تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا { وما خلق الله في السماوات والأرض}أي : من الآيات الدالة على عظمته تعالى{لآيات} علامات ودلائل{ لقوم يتقون } أي :يتقون عقاب الله ، وسخطه ، وعذابه .
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)}
قوله: {إن الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا، {ورضوا بالحياة الدنيا} اختاروها وعملوا لها، {واطمأنوا بها} سكنوا إليها. {والذين هم عن آياتنا غافلون } أي: عن أدلتنا لا يعتبرون .
{أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)}
قوله: { أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } هؤلاء الذين هذه صفتهم، {مأواهم ) ، مصيرهم إلى نار جهنم، {بما كانوا يكسبون}، في الدنيا من الآثام والأجْرام، ويجْترحون من السيئات.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)}
قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم } أي : يرشدهم ربهم بإيمانهم إلى جنة ، {تجري من تحتهم الأنهار} أي : بين أيديهم ، كقوله عز وجل : { قد جعل ربك تحتك سريا } [ مريم - 24 ] لم يرد به أنه تحتها وهي قاعدة عليه ، بل أراد بين يديها .{في جنات النعيم} . في بساتين النعيم ، الذي نعَّم الله به أهل طاعته والإيمان به.
{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)}
قوله:{ دعواهم } أي : قولهم وكلامهم . { فيها سبحانك اللهم } وهي كلمة تنزيه ، تنزه الله من كل سوء .وفي صحيح مسلم أن أهل الجنة: " يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ والتَّكْبِيرَ كما تُلْهَمُونَ النَّفَسَ." .
قوله تعالى : { وتحيتهم فيها سلام } أي : يحيي بعضهم بعضا بالسلام .
{وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } أي : هذا حال أهل الجنة .
{۞ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ۖ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)}
قوله عز وجل: {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير } معناه : لو يعجل الله الناس إجابة دعائهم في الشر والمكروه استعجالهم بالخير ، أي : كما يحبون استعجالهم بالخير ، {لقضي إليهم أجلهم } أي : لأهلك من دعا عليه وأماته .{فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أي: لا يعجل لهم الشر فربما يتوب منهم تائب، أو يخرج من أصلابهم مؤمن .{فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي يتحيرون . والطغيان : العلو والارتفاع
{وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)}
قوله تعالى : {وإذا مس الإنسان الضر} الجهد والشدة ، {دعانا لجنبه} أي: على جنبه مضطجعا، {أو قاعدا أو قائما} يريد في جميع حالاته، لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات. {فلما كشفنا} دفعنا {عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} أي استمر على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر ، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء ، كأنه لم يدعنا إلى ضر مسه . { كذلك زين للمسرفين } المجاوزين الحد في الكفر والمعصية ، {ما كانوا يعملون} من العصيان .
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ۙ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)}
قوله عز وجل : { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا } أشركوا ، { وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك } أي : كما أهلكناهم بكفرهم ، { نجزي } نعاقب ونهلك ، { القوم المجرمين } الكافرين بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، يخوف كفار مكة بعذاب الأمم الخالية المكذبة .
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}
قوله تعالى:( ثم جعلناكم خلائف ) أي : خلفاء ، ( في الأرض من بعدهم ) أي : من بعد القرون التي أهلكناهم ، ( لننظر كيف تعملون ) وهو أعلم بهم . فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، " . (صحيح مسلم)
{وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}
قوله عز وجل : {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} يعني مشركي مكة. {قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا} ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة ، وليس فيه عيبها ، {أو بدله} فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة، أو مكان حرام حلالا أو مكان حلال حراما، {قل} لهم يا محمد، {ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} من قبل نفسي {إن أتبع إلا ما يوحى إلي} أي : ما أتبع إلا ما يوحى إلي فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } . إني أخشى من الله إن خالفت أمره ، وغيَّرت أحكام كتابه ، وبدّلت وَحيه، فعصيته بذلك، عذابَ يوم عظيمٍ هَوْلُه.
{قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)}
قوله: {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم} يعني: لو شاء الله ما أنزل القرآن علي .{ولا أدراكم به } أي : ولا أعلمكم الله . {فقد لبثت فيكم عمرا} حينا وهو أربعون سنة ، ( من قبله ) من قبل نزول القرآن ولم آتكم بشيء . {أفلا تعقلون} أنه ليس من قبلي ، ولبث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم قبل الوحي أربعين سنة ثم أوحى الله إليه فأقام بمكة بعد الوحي ثلاث عشرة سنة ، ثم هاجر فأقام بالمدينة عشر سنين وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة .
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}
قوله تعالى: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا} لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما ممن افترى الكذب على الله وتقَوَّلَ على الله ، وزعم أن الله أرسله ، ولم يكن كذلك ، فليس أحد أكبر جرما ولا أعظم ظلما من هذا ، {أو كذب بآياته ) كذب بالحق الذي جاءت به الرسل ، وقامت عليه الحجج ، لا أحد أظلم منه كما جاء في الحديث : " أشدُّ الناسِ عذابًا يومَ القيامةِ رجلٌ قَتَلَ نبيًّا أو قتَلَهُ نبيٌّ " صحيح الجامع للألباني {إنه لا يفلح المجرمون } لا ينجو المشركون .
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ۚ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}
قوله: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم} إن عصوه وتركوا عبادته ، (ولا ينفعهم } إن عبدوه ، يعني : الأصنام ، {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله ) أتخبرون الله ، {بما لا يعلم} الله صحته . ومعنى الآية : أتخبرون الله أن له شريكا ، أو عنده شفيعا بغير إذنه ، ولا يعلم الله لنفسه شريكا؟! .
{ في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } تقدس وتنزه أن يكون له شريك أو نظير، بل هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لا إله في السماوات والأرض إلا هو، وكل معبود سواه، فإنه باطل عقلا وشرعا وفطرة.
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)}
قوله تعالى : {وما كان الناس إلا أمة واحدة} أي:على الإسلام . { فاختلفوا} فتفرقوا إلى مؤمن وكافر، {ولولا كلمة سبقت من ربك} : ولولا أنه سبق من الله أنه لا يهلك قوما إلا بعد انقضاء آجالهم ، { لقضي بينهم فيما فيه يختلفون } لقضي بينهم بأن يُهلِك أهل الباطل منهم، وينجي أهل الحق ، وكان ذلك فصلا بينهم.
{وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۖ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (20)}
قوله:{ ويقولون } يعني : أهل مكة ، { لولا أنزل عليه } أي : على محمد صلى الله عليه وسلم { آية من ربه } على ما نقترحه ، { فقل إنما الغيب لله} يعني : قل إنما سألتموني الغيب وإنما الغيب لله، لا يعلم أحد لم لم يفعل ذلك ولا يعلمه إلا هو، {فانتظروا} نزولها {إني معكم من المنتظرين } أي: كل ينتظر بصاحبه ما هو أهل له، فانظروا لمن تكون العاقبة.
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا ۚ قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)}
قوله عز وجل: {وإذا أذقنا الناس} يعني: الكفار، {رحمة من بعد ضراء} أي: راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء.
{مستهم} أي : أصابتهم ، { إذا لهم مكر في آياتنا } تكذيب واستهزاء .{ قل الله أسرع مكرا } أعجل عقوبة وأشد أخذا وأقدر على الجزاء ، يريد : عذابه في إهلاككم أسرع إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق ، { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } إن حفظتنا الذين نرسلهم إليكم ، أيها الناس ، يكتبون عليكم ما تكذبون وتنكرون.
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)}
قوله تعالى:{هو الذي يسيركم} يجريكم ويحملكم، { في البر } ، على ظهور الدواب ، وفي {البحر} على الفلك ، {حتى إذا كنتم في الفلك} أي : في السفن ، تكون واحدا وجمعا {وجرين بهم} يعني : جرت السفن بالناس ، رجع من الخطاب إلى الخبر ، {بريح طيبة } لينة ، {وفرحوا بها} أي: بالريح، {جاءتها ريح} أي : جاءت الفلك ريح، {عاصف} شديدة الهبوب، ولم يقل ريح عاصفة، لاختصاص الريح بالعصوف. {وجاءهم} يعني: ركبان السفينة ، { الموج } وهو حركة الماء واختلاطه ، { من كل مكان وظنوا } أيقنوا { أنهم أحيط بهم } دنوا من الهلكة ، أي : أحاط بهم الهلاك ، { دعوا الله مخلصين له الدين } أي : أخلصوا في الدعاء لله ولم يدعوا أحدا سوى الله . وقالوا { لئن أنجيتنا } يا ربنا ، { من هذه } الريح العاصف ، {لنكونن من الشاكرين } لك بالإيمان والطاعة .
{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعََ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}
قوله:{ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض } يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر الله عز وجل في الأرض، { بغير الحق } أي : بالفساد . {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم } لأن وباله راجع عليها ، ثم ابتدأ فقال : {متاعََ الحياة الدنيا} متاع بالنصب ، أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، {ثم إلينا مرجعكم} أي : مصيركم ومآلكم{ فننبئكم بما كنتم تعملون} أي : فنخبركم بجميع أعمالكم ، ونوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}
قوله عز وجل : {إنما مثل الحياة الدنيا} في فنائها وزوالها ، { كماء أنزلناه من السماء فاختلط به } أي: بالمطر ، { نبات الأرض } أي: نبت بالماء من كل لون ،
{مما يأكل الناس} من الحبوب والثمار ، {والأنعام} من الحشيش ، { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } حسنها وبهجتها ، وظهر الزهر: أخضر، وأحمر، وأصفر، وأبيض ،
{ وازينت } أي : تزينت ، { وظن أهلها أنهم قادرون عليها } على جذاذها وقطافها وحصادها، {أتاها أمرنا } قضاؤنا ، بإهلاكها ، { ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا } أي : محصودة مقطوعة ، { كأن لم تغن بالأمس } كأن لم تكن بالأمس .
{كذلك نفصل الآيات } أي: نبينها ونوضحها، بتقريب المعاني إلى الأذهان، وضرب الأمثال {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: يعملون أفكارهم فيما ينفعهم، وأما الغافل المعرض، فهذا لا تنفعه الآيات، ولا يزيل عنه الشكَّ البيانُ.
{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25)}
قوله تعالى : ( والله يدعو إلى دار السلام ) أي: الجنة ، سميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات ولأن أهلها يحيي بعضهم بعضا بالسلام والملائكة تسلم عليهم . قال الله تعالى :
{والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } [الرعد - 23 ] .{ ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} الصراط المستقيم هو الإسلام .
{۞ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)}
قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} أي: للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى ، وهي الجنة ، وزيادة : وهي النظر إلى وجه الله الكريم ، {ولا يرهق} لا يغشى {وجوههم قتر} سواد الوجه، {ولا ذلة} هوان وصغار. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الملازمون لها {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يحولون ولا يزولون، ولا يتغيرون.
{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۖ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)}
قوله:( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ) أي : لهم مثلها من العقوبة {وترهقهم ذلة } أي : هوان {ما لهم من الله من عاصم } أي مالهم من الله عاصم ( كأنما أغشيت ) ألبست ، ( وجوههم قطعا من الليل مظلما ) إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة. ( أولئك أصحاب النار} أهل النار { هم فيها خالدون ) ماكثون .
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ۚ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ۖ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)}
قوله تعالى : ( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم ) أي : الزموا مكانكم ولا تبرحوه (أنتم وشركاؤكم) يعني: الأوثان . (فزيلنا) ميزنا وفرقنا (بينهم) أي : بين المشركين وشركائهم ، وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا ، وذلك حين يتبرأ كل معبود من دون الله ممن عبده ، (وقال شركاؤهم) يعني : الأصنام ، (ما كنتم إيانا تعبدون ) أنكروا عبادتهم ، وتبرءوا منهم .
{فَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)}
قوله: ( فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) أي : ما كنا نشعر بها ولا نعلم ، وإنما أنتم كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم ، والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا ، ولا أمرناكم بها ، ولا رضينا منكم بذلك.
{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ۚ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۖ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)}
قال الله تعالى : {هنالك تبلو} أي : تختبر . {كل نفس} صحيفتها . {ما أسلفت} ما قدمت من خير أو شر، {وردوا إلى الله} إلى حكمه فيتفرد فيهم بالحكم ، (مولاهم الحق } الذي يتولى ويملك أمورهم {وضل عنهم} زال عنهم وبطل، {ما كانوا يفترون} في الدنيا من التكذيب .
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)}
قوله تعالى : {قل من يرزقكم من السماء والأرض} أي : من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات ، {أمن يملك السمع والأبصار } أي : من إعطائكم السمع والأبصار ، {ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} يخرج الحي من النطفة والنطفة من الحي ، {ومن يدبر الأمر} أي : يقضي الأمر ، {فسيقولون الله} هو الذي يفعل هذه الأشياء ، {فقل أفلا تتقون} أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم ؟ .
{فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ (32)}
قوله: {فذلكم الله ربكم الحق}أي: الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة ، {فماذا بعد الحق إلا الضلال}أي: فكل معبود سواه باطل، لا إله إلا هو، واحد لا شريك له .{فأنى تصرفون} أي : فكيف تُصرفون عن عبادته وأنتم مقرون به؟
{كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}
قوله:{كذلك} هكذا ، {حقت} وجبت ، {كلمة ربك} حكمه السابق ، {على الذين فسقوا } كفروا ، { أنهم لا يؤمنون }.أي مستمرون على شركهم ؛ فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء .
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ (34)}
قوله : { قل هل من شركائكم } أوثانكم { من يبدأ الخلق } ينشئ الخلق من غير أصل ولا مثال ، { ثم يعيده } ثم يحييه من بعد الموت كهيئته ، فإن أجابوك وإلا فـ { قل} أنت : { الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون } أي : تصرفون عن قصد السبيل .
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)}
قوله:{قل هل من شركائكم من يهدي} يرشد ، {إلى الحق} فإذا قالوا : لا - ولا بد لهم من ذلك - {قل الله يهدي للحق} أي إلى الحق .{ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ } .
قوله تعالى: {إلا أن يهدى} معنى الآية : الله الذي يهدي إلى الحق أحق بالاتباع أم الصنم الذي لا يهتدي إلا أن يهدى؟ فإن قيل : كيف قال: { إلا أن يهدى } ، والصنم لا يتصور أن يهتدي ولا أن يهدى ؟ قيل : معنى الهداية في حق الأصنام الانتقال ، أي : أنها لا تنتقل من مكان إلى مكان إلا أن تحمل وتنقل ، يتبين به عجز الأصنام .{فما لكم كيف تحكمون } كيف تقضون حين زعمتم أن لله شريكا؟
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)}
قوله تعالى :{ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا } أي : توهم وتخيل منهم ، {إن الظن لا يغني من الحق شيئا } أي : لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئا ، { إن الله عليم بما يفعلون } وسيجازيهم على ذلك بالعقوبة البليغة.
{وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37)}
قوله تعالى : {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: غير ممكن ولا متصور، أن يفترى هذا القرآن على الله تعالى، لأنه الكتاب العظيم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت 42] وهو الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، وهو كتاب الله الذي تكلم به رب العالمين، فكيف يقدر أحد من الخلق، أن يتكلم بمثله، أو بما يقاربه؟!. { ولكن تصديق الذي بين يديه} أي : بين يدي القرآن من التوراة والإنجيل { وتفصيل الكتاب } تبيين ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والأحكام ، { لا ريب فيه من رب العالمين } أي: لا شك ولا مرية فيه بوجه من الوجوه، بل هو الحق اليقين: تنزيل من رب العالمين .
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38)}
قوله: {أَمْ يَقُولُونَ} أي: المكذبون به عنادًا وبغيًا: {افْتَرَاهُ} محمد على الله، واختلقه،{ قل فأتوا بسورة مثله } شبه القرآن {وادعوا من استطعتم} ممن تعبدون، {من دون الله} من غير الله { إن كنتم صادقين } أن محمدا افتراه.
{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)}
قوله:{بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} يعني : القرآن ، (ولما يأتهم تأويله) أي : أنهم لم يعلموا ما يئول إليه عاقبة أمرهم .{كذلك كذب الذين من قبلهم} أي : كما كذب هؤلاء الكفار بالقرآن كذلك كذب الذين من قبلهم من كفار الأمم الخالية ، {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} آخر أمر المشركين بالهلاك .
{وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّا يُؤْمِنُ بِهِ ۚ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)}
قوله:{ومنهم من يؤمن به} أي : من قومك من يؤمن بالقرآن ، {ومنهم من لا يؤمن به} لعلم الله السابق فيهم ، {وربك أعلم بالمفسدين} الذين لا يؤمنون .
{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ۖ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (41)}
قوله: ( وإن كذبوك ) يا محمد ، ( فقل لي عملي ) وجزاؤه ، ( ولكم عملكم ) وجزاؤه ، ( أنتم بريئون مما أعمل } لا تُؤْاخذون بجريرته ، (وأنا بريء مما تعملون)، لا أوخذ بجريرة عملكم.
{وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)}
قوله:: ( ومنهم من يستمعون إليك ) بأسماعهم الظاهرة فلا ينفعهم ، ( أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ) يريد : سمعَ القلب ، والمعنى: فإذا كان من المحال إسماع الأصم الذي لا يعقل للكلام، فهؤلاء المكذبون، كذلك ممتنع إسماعك إياهم، إسماعًا ينتفعون به.
{وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)}
قوله: {ومنهم من ينظر إليك } أي: بأبصارهم الظاهرة، {أفأنت تهدي العمي} يريد عمى القلب ، {ولو كانوا لا يبصرون} وهذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول: إنك لا تقدر أن تسمع من سلبتُه السمع ، ولا أن تهدي من سلبتُه البصيرة ، ولا أن توفق للإيمان من حكمت عليه أن لا يؤمن .
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)}
قوله: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} لأنه في جميع أفعاله متفضل عادل ، { ولكن الناس أنفسهم يظلمون} بالكفر والمعصية .
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)}.
قوله تعالى : { ويوم يحشرهم } إذا حشر الله الناس وجمعهم ليوم لا ريب فيه،{ كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار} كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار .{ يتعارفون بينهم } يعرف بعضهم بعضا حين بعثوا من القبور كمعرفتهم في الدنيا ، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة .
{ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} والمراد من الخسران : خسران النفس ، ولا شيء أعظم منه. {وما كانوا مهتدين} وما كانوا موفّقين لإصابة الرشد مما فعلوا من تكذيبهم بلقاء الله، لأنه أكسبهم ذلك ما لا قِبَل لهم به من عذاب الله.
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ (46)}
قوله تعالى : { وإما نرينك } يا محمد ، {بعض الذي نعدهم } في حياتك من العذاب ، ( أو نتوفينك ) قبل تعذيبهم ، {فإلينا مرجعهم} في الآخرة ، { ثم الله شهيد على ما يفعلون } فيجزيهم به ، " ثم " بمعنى الواو ، تقديره : والله شهيد .
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)}
قوله عز وجل : (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم ) يعني يوم القيامة . { قضي بينهم بالقسط } فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها ، وكتاب أعمالها من خير وشر {وهم لا يظلمون} لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة
{وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48)}
{ويقولون} أي: ويقول المشركون: {متى هذا الوعد} الذي تعدنا يا محمد من العذاب، (إن كنتم صادقين) أنت يا محمد وأتباعك .
{قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۚ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)}
قوله: ( قل لا أملك لنفسي } لا أقدر لها على شيء .
{ضرا ولا نفعا } أي : دفع ضر ولا جلب نفع ، { إلا ما شاء الله } أن أملكه ، { لكل أمة أجل } مدة مضروبة ، {إذا جاء أجلهم } وقت فناء أعمارهم ، { فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } أي : لا يتأخرون ولا يتقدمون .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)}
يقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا} وقت نومكم بالليل {أَوْ نَهَارًا} في وقت غفلتكم {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} استفهام معناه التهويل والتعظيم، أي ما أعظم ما يستعجلون به.
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ ۚ آلْآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)}
قوله: {أثم إذا ما وقع} معناه أهنالك؟ {إذا ما وقع } وقت نزول العذاب ، { آمنتم به } أي بالله في وقت اليأس.{آلآن} أي: آلآن تؤمنون حين وقع العذاب؟ {وقد كنتم به تستعجلون } تكذيبا واستهزاء .
{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (52)}
قوله: {ثم قيل للذين ظلموا} أشركوا، {ذوقوا عذاب الخلد} أي : يوم القيامة يقال لهم هذا ، تبكيتا وتقريعا ،{ هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون } من الكفر والتكذيب والمعاصي.
{۞ وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ۖ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ۖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (53)}
قوله: (ويستنبئونك) أي : يستخبرونك يا محمد ، (أحق هو) أي : ما تعدنا من العذاب وقيام الساعة ، (قل إي وربي) أي : نعم وربي ، (إنه لحق) لا شك فيه ، (وما أنتم بمعجزين) أي : بفائتين من العذاب ، لأن من عجز عن شيء فقد فاته .
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ۗ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)}
قوله: (ولو أن لكل نفس ظلمت) أي: أشركت ، (ما في الأرض لافتدت به) يوم القيامة ، والافتداء هاهنا: بذل ما ينجو به من العذاب. (وأسروا الندامة }أي: أخفى الرؤساء الندامة من الضعفاء ، خوفا من ملامتهم وتعييرهم { لما رأوا العذاب) حين أبصرُوا عذاب الله قد أحاط بهم، وأيقنوا أنه واقع بهم ، (وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) أي: العدل التام الذي لا ظلم ولا جور فيه بوجه من الوجوه.
{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)}
قوله : {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ } أي: ألا إنّ كل ما في السموات وكل ما في الأرض من شيء ، لله مِلْك، لا شيء فيه لأحدٍ سواه ، {أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي: إن عذابه الذي أوعد هؤلاء المشركين على كفرهم حقٌّ، فلا عليهم أن يستعجلوا به ، فإنه بهم واقع لا شك ، {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون حقيقةَ وقوع ذلك بهم، فهم من أجل جهلهم به مكذِّبون.
{هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)}
قوله:{هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: هو المتصرف بالإحياء والإماتة، وسائر أنواع التدبير ، لا شريك له في ذلك. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57)}
قوله تعالى: {ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم} {موعظة} يعني بذلك جلّ ثناؤه القرآن، وهو الموعظة من الله.، { وشفاء لما في الصدور} أي : دواء للجهل ، لما في الصدور. أي : شفاء لعمى القلوب، {وهدى} من الضلالة { ورحمة للمؤمنين} يرحم به من شاء من خلقه، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى، وينجيه من الهلاك والردى. وجعله تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين به دون الكافرين ، لأن من كفر بالقرآن فقد عميت بصيرته.
{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)
قوله تعالى : ( قل بفضل الله وبرحمته ) فضل الله : الإيمان ، ورحمته : القرآن .
( فبذلك فليفرحوا ) أي : ليفرح المؤمنون أن جعلهم الله من أهله ، ( هو خير مما يجمعون ) أي : مما يجمعه الكفار من الأموال .
{قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)}
(قُلْ) يا محمد لكفار مكة ، ( أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ ) عبر عن الخلق بالإنزال ، لأن ما في الأرض من خير، فمما أنزل الله من رزق ، من زرع وضرع، (فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ) هو ما حرموا من الحرث ومن الأنعام كالبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة والحام .والبَحِيرة وهي الناقة التي تُقْطَعُ أذنها إذا أنجبت عددًا معينًا، والسائبة وهي الناقة التي إذا بلغت سِنًّا معينة تُتْرَكُ لأصنامهم، والوصِيلة وهي الناقة التي تصل إنجاب أنثى بأنثى، والحام وهو فحل الإبل إذا نتج عدد من الإبل من صلبه، لكن الكفار زعموا كذبًا وبهتانًا أن الله حرَّم المذكورات، وأكثر الكافرين لا يميزون بين الحق والباطل والحلال والحرام. (أَمْ) بل ، (عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ) وهو قولهم : { والله أمرنا بها } .
{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)}
أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله، أو أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء ، التي لا مستند لها ولا دليل عليها . ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة ، فقال : ( وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ) أي: ما ظنهم أن يصنع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة .
وقوله : ( إن الله لذو فضل على الناس ) المراد : لذو فضل على الناس فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع في الدنيا ، ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم .
(ولكن أكثرهم لا يشكرون) نعمة الله عليهم ، بل يحرمون ما أنعم الله به عليهم ، ويضيقون على أنفسهم ، فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما. وهذا قد وقع فيه المشركون فيما شرعوه لأنفسهم ، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم .
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61)}.
قوله عز وجل: (وما تكون) يا محمد ، ( في شأن ) عمل من الأعمال ، ، ( وما تتلو منه من قرآن) من الله نازل، ثم خاطبه وأمته فقال: (ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه) أي: تدخلون فيه .(وما يعزب عن ربك) ما يغيب عن ربك، (من مثقال ذرة) والذرة هي: النملة الصغيرة. (في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) أي: من الذرة . ( إلا في كتاب مبين ) واضح، وهو اللوح المحفوظ .
{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله )هم الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وهم الذين إذا رأيتَهم ذكرتَ اللهَ (لا (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) أي فيما يستقبلون من أهوال القيامة ، (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي: لا يحزنون إذا حزن الناس
{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)}
قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} أي: بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وصدقوا إيمانهم، باستعمال التقوى، بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي. {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي يجتنبون الشرك والمعاصي .
{لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)}
قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ ) في الدنيا هي: الثناء الحسن ، وفي الآخرة: الجنة .{لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ} لا تغيير لقوله، ولا خلف لوعده . { ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي: ما يصير إليه أولياؤه فهو الفوز العظيم .
{وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ۚ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)}
قوله:{ولا يحزنك قولهم } يعني : قول المشركين ، تم الكلام هاهنا ثم ابتدأ ، فقال: {إن العزة لله } يعني الغلبة والقدرة لله {جميعا } هو ناصرك، وناصر دينك ، والمنتقم منهم .{ هو السميع العليم } أي : السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم .
{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ۗ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)}
قوله:{ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ۗ } يخبر تعالى: أن له ما في السماوات والأرض، خلقًا وملكًا وعبيدًا، يتصرف فيهم بما شاء من أحكامه، فالجميع مماليك لله، {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ ۚ} أي: لا يتبعون شركاء على الحقيقة ، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع .{إن يتبعون إلا الظن } يظنون أنها تقربهم إلى الله تعالى، {وإن هم إلا يخرصون } يكذبون
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)}
قوله:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ } جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه، أي : يستريحون فيه من نصبهم وكلالهم وحركاتهم ، {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ} أي : مضيئا لمعاشهم وسعيهم ، وأسفارهم ومصالحهم، {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: يسمعون هذه الحجج والأدلة ، فيعتبرون بها ، ويستدلون على عظمة خالقها ، ومقدرها ومسيرها .
{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ الْغَنِيُّ ۖ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا ۚ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)}
قوله:{قالوا} يعني: المشركين ، {اتخذ الله ولدا} وهو كقولهم: الملائكة بنات الله، {سبحانه هو الغني } عن خلقه، {له ما في السماوات وما في الأرض} عبيدا وملكا، {إن عندكم} ما عندكم، (من سلطان بهذا) حجة وبرهان، {أتقولون على الله ما لا تعلمون} من إثبات الولد له ، والولد يقتضي المجانسة والمشابهة والله تعالى لا يجانس شيئا ولا يشابِهُ شيئا .
{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)}
قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} أي يختلقون .{لَا يُفْلِحُونَ} أي لا يفوزون بالجنة ولا يأمنون من عقاب الله .
{مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}
قوله:{مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا}أي: متاع قليل يتمتعون به إلى انقضاء آجالهم {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي: يوم القيامة، {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ}أي: الموجع المؤلم {بِمَا كَانُوا يَكْفرُونَ} أي : بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله، فيما ادعوه من الإفك والزور.
{۞ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ (71)}.
قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } أي : اقرأ يا محمد على أهل مكة خبر نوح {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} وهم ولد قابيل، {إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم} عظم وثقل عليكم، {مَّقَامِي} طول مكثي فيكم {وَتَذْكِيرِي} ووعظي إياكم {بِآيَاتِ اللَّهِ} بحججه وبيناته . {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} أي: أحكموا أمركم واعزموا عليه ، {وَشُرَكَاءَكُمْ } أي : وادعوا شركاءكم ، أي : آلهتكم ، فاستعينوا بها لتجتمع معكم .
{ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً وَلَا تُنظِرُونِ} أي : خفيا مبهما ، من قولهم : غم الهلال على الناس، أي: أشكل عليهم ، {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} أي : أمضوا ما في أنفسكم وافرغوا منه ، وتوجهوا إلي بالقتل والمكروه.{وَلَا تُنظِرُونِ} ولا تؤخرون وهذا على طريق التعجيز ، أخبر الله عن نوح أنه كان واثقا بنصر الله تعالى غير خائف من كيد قومه ، علما منه بأنهم وآلهتهم ليس إليهم نفع ولا ضر إلا أن يشاء الله .
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)}
قوله:{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن قولي وقبول نصحي ، { فَمَا سَأَلْتُكُم } على تبليغ الرسالة والدعوة ، { مِّنْ أَجْرٍ ۖ } جعل وعوض ، { إِنْ أَجْرِيَ } ما أجري وثوابي ، { إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي: من المؤمنين.
{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73)}
قوله: {فكذبوه} يعني نوحا {فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف} أي : جعلنا الذين معه في الفلك سكان الأرض خلفاء عن الهالكين. {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} أي : انظر نظرة تأمل كيف أهلكناهم بالإغراق لتكذيبهم بآياتنا.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)}
قوله:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا} أي: من بعد نوح رسلا.{إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ } بالدلالات الواضحات، {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ۚ} أي: بما كذب به قوم نوح من قبل ، {كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ } أي: نختم ، {عَلَىٰ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} أي المجاوزين الحد في الكفر والتكذيب فلا يؤمنوا.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (75)}
قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا} أي:من بعد هؤلاء الرسل، الذين أرسلهم الله إلى القوم المكذبين .
{مُوسَى} بن عمران، كليم الرحمن، أحد أولي العزم من المرسلين، وأحد الكبار المقتدى بهم، المنزل عليهم الشرائع المعظمة الواسعة.
{و} جعلنا معه أخاه {هَارُونَ} وزيرًا بعثناهما {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي: كبار دولته . {بِآيَاتِنَا} أي: حججنا وبراهيننا، {فَاسْتَكْبَرُوا} أي: عن الحق {وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} أي: مشركين، وصفُهم الإجرام والتكذيب.
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هَٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76)}
قوله:{فلما جاءهم الحق } أي: جاء لفرعون وقومه البراهينُ والبينات الدالة على صدق ما جاء به موسى عليه السلام {من عندنا} يعني: من الله سبحانه ، {قَالُوا إِنَّ هَٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } قالوا ذلك جحودا وبهتانا وكذبا .
{قَالَ مُوسَىٰ أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ ۖ أَسِحْرٌ هَٰذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)}
{قَالَ} لهم {مُوسَى} ـ موبخا لهم عن ردهم الحق، الذي لا يرده إلا أظلمُ النَّاس: ـ {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ} أي: أتقولون إنه سحر مبين. {أَسِحْرٌ هَٰذَا } قاله موسى منكرا على فرعون وملئه قولَهم للحق لما جاءهم: إنه سحر {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فانظروا لمن تكون له العاقبة، ولمن له الفلاح، وعلى يديه النجاح. وقد علموا بعد ذلك وظهر لكل أحد أن موسى عليه السلام هو الذي أفلح، وفاز بظفر الدنيا والآخرة.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)}
{قَالُوا} لموسى رادين لقوله بما لا يرده: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أي: أجئتنا لتصدنا عما وجدنا عليه آباءنا، من الشرك وعبادة غير الله، وتأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له؟ فجعلوا قول آبائهم الضالين حجة، يردون بها الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام.
يقول العلامة المحقق الشيخ الطاهر ابن عاشور، رحمه الله : " ...، وَكَانَ الْقِبْطُ مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً مُتَنَوِّعَةً مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْعَنَاصِرِ وَصَوَّرُوا لَهَا صُوَرًا عَدِيدَةً مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ،... وَكَانَ أَعْظَمَ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ فِرْعَوْنُ إِلَى بُنُوَّتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ مَعْدُودًا ابْنَ الْآلِهَةِ، وَقَدْ حَلَّتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ عَلَى نَحْوِ عَقِيدَةِ الْحُلُولِ فَفِرْعَوْنُ هُوَ الْمُنَفِّذُ لِلدِّينِ، وَكَانَ يُعَدُّ إِلَهَ مِصْرَ، وَكَانَت طَاعَته طَاعَتُهُ لِلْآلِهَةِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات: 24] (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [الْقَصَص: 38]"
وقولهم : {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} أي: وجئتمونا لتكونوا أنتم الرؤساء، ولتخرجونا من أرضنا. وهذا تمويه منهم، وترويج على جهالهم، وتهييج لعوامهم على معاداة موسى، وعدم الإيمان به. {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي: تكبرًا وعنادًا، لا لبطلان ما جاء به موسى وهارون، ولا لاشتباه فيه، ولا لغير ذلك من المعاني، سوى الظلم والعدوان، وإرادة العلو الذي رموا به موسى وهارون.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)}
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} معارضًا للحق، الذي جاء به موسى، ومغالطًا لملئه وقومه: {ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} أي: ماهر بالسحر، متقن له. فأرسل في مدائن مصر، من أتاه بأنواع السحرة، على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم.
{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (80)}
قوله: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} للمغالبة مع موسى {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أي: أي شيء أردتم، لا أعين لكم شيئًا، وذلك لأنه جازم بغلبته، غير مبال بهم، وبما جاءوا به.
{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ ۖ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)}
{فَلَمَّا أَلْقَوْا} حبالهم وعصيهم، إذا هي كأنها حيات تسعى، فـ {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} أي: هذا السحر الحقيقي العظيم، ولكن مع عظمته {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ}، سيذهب به، فذهب به تعالى ذكره ، بأن سلط عليه عصا موسى قد حوّلها ثعبانًا يتلقَّفه ، حتى لم يبق منه شيء { إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحق، وأي فساد أعظم من هذا؟!!
{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}
قوله تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ } أي يبينه ويوضحه. {بِكَلِمَاتِهِ} أي: بكلامه وحججه وبراهينه .
{وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} من آل فرعون .
{فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ۚ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)}
قوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ} لم يصدق موسى مع ما آتاهم به من الآيات، {إِلَّا ذُرِّيَّةٌ} أراد بالذرية الأحداث والشباب وأنهم من بني إسرائيل ، فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى ، عليه السلام ، واستبشروا به {مِّن قَوْمِهِ} الهاء التي في { قَوْمِهِ } : مؤمنو بني إسرائيل الذين كانوا بمصر وخرجوا معه. ، {عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ } أراد بفرعون آل فرعون ، أي : على خوف من آل فرعون {وَمَلَئِهِمْ }أي: أشراف قومهم ، {أَن يَفْتِنَهُمْ ۚ} أي : يصرفهم عن دينهم ولم يقل يفتنوهم لأنه أخبر عن فرعون وكان قومه على مثل ما كان عليه فرعون ، {وإن فرعون لعال} لمتكبر،{في الأرض وإنه لمن المسرفين} المجاوزين الحد ، لأنه كان عبدا فادعى الربوبية
{وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84)}.
قوله:{ وَقَالَ مُوسَى } موصيًا لقومه بالصبر، ومذكرًا لهم ما يستعينون به على ذلك فقال: { يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ } فقوموا بوظيفة الإيمان.{ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } أي: اعتمدوا عليه، والجؤوا إليه واستنصروه. إن كنتم أقررتم بوحدانية الله، وصدقتم بربوبيته.
{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)}
قوله: {فقالوا على الله توكلنا} اعتمدنا، ثم دعوا فقالوا،
{ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} أي: لا تظهرهم علينا ولا تهلكنا بأيديهم ، فيظنوا أنا لم نكن على الحق فيزدادوا طغيانا .
{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)}
قوله:{ونجنا برحمتك} أي : خلصنا برحمة منك وإحسان، {من القوم الكافرين } أي : الذين كفروا الحق وستروه ، ونحن قد آمنا بك وتوكلنا عليك .
{وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}
قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ} حين اشتد الأمر على قومهما، من فرعون وقومه، وحرصوا على فتنتهم عن دينهم. { أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } أي: مروهم أن يجعلوا لهم بيوتًا، يتمكنون من الاستخفاء فيها. { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي: اجعلوها محلا، تصلون فيها، حيث عجزتم عن إقامة الصلاة في الكنائس، والبيع العامة.{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فإنها معونة على جميع الأمور، { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } بالنصر والتأييد، وإظهار دينهم، فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا.
{وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)}
قوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ) من متاع الدنيا ، (وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ ) أي: إن أموالهم لم يستعينوا بها إلا على الإضلال في سبيلك، فيضلون ويضلون. (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ) امسخها وغيرها عن هيئتها ، فصارت أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حجارة .
( وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ) أي: أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان ، ( فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) وهو الغرق .
{قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)}
{قال} الله تعالى لموسى وهارون ، { قد أجيبت دعوتكما } إنما نسب إليهما والدعاء كان من موسى لأنه روي أن موسى كان يدعو وهارون يؤمن ، والتأمين دعاء . { فاستقيما } على الرسالة والدعوة ، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذاب (وَلَا تَتَّبِعَانِّ) ﴿وَلَا﴾: الواو: حرف عطف {لا}: حرف نهي وجزم. {تَتَّبِعَانِّ}: فعل مضارع مجزوم، وعلامة الجزم حذف النون، لأنه من الأفعال الخمسة، و "الألف" ضمير فاعل، و "النون": نون التوكيد الثقيلة لا محل لها من الإعراب، { سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } يعني: ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي ، فإن وعدي لا خلف فيه ، ووعيدي نازل بفرعون وقومه.
{۞ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)}
{وجاوزنا} عبرنا بهم {ببني إسرائيل البحر} هم سلالة نبى الله إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام ، {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ } فتَبعهم فرعون وجنوده ، {بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ} أي : ظلما واعتداء . وكان البحر قد انفلق لموسى وقومه، فلما وصل فرعون بجنوده إلى البحر هابوا دخوله فتقدمهم جبريل على فرس وديق أي: مريدة للفحل تشتهيه وخاض البحر ، فاقتحمت الخيول خلفه ، فلما دخل آخرهم وهمَّ أولهم أن يخرج انطبق عليهم الماء . {حتى إذا أدركه الغرق} أي : غمره الماء وقرب هلاكه، {قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} فتلفظ بكلمة الإيمان حيث لا ينفعه الإيمان.
{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)}
قوله: { آلآن وقد عصيت قبل } أي : أهذا الوقت تقول فيه آمنت !، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه ؟ {وكنت من المفسدين} أي : في الأرض ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لمَّا أغرقَ اللَّهُ فِرعونَ قالَ : آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ، فقالَ جبريلُ : يا محمَّدُ فلو رأيتَني ، وأَنا آخذٌ من حالِ البحرِ فأدسُّهُ في فيهِ مخافةَ أن تُدْرِكَهُ الرَّحمةُ" (صحيح الترمذي للألباني).
{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)}
قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ} قال ابن عباس وغيره من السلف: إن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده بلا روح ، وعليه درعه المعروفة به على نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع ، ليتحققوا موته وهلاكه ؛ {بِبَدَنِكَ} بجسدك لا روح فيه
{لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} عبرة وعظة، {وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون} لا يتعظون بها ، ولا يعتبرون .
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)}
قوله:{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أنزلنا بني إسرائيل بعد هلاك فرعون، {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} منزل صدق ، يعني :بلاد الشام، مما يلي بيت المقدس {وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} الرزق الطيب النافع المستطاب . {فَمَا اخْتَلَفُوا} يعني اليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في تصديقه وأنه نبي ، { حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ۚ} يعني : القرآن والبيان بأنه رسول لله صدق ، ودينه حق .{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من الدين .
{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)}
قوله تعالى :{فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك { فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ۚ} أي : ممن أسلم مثل عبد الله بن سلام وغيره من أهل العدل والصدق، فيخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة .{ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} من الشاكين .
{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)}
قوله:{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وهذا كله خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره .
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ } وجبت عليهم، {كَلِمَتُ رَبِّكَ} لعنته وسخطه. {لَا يُؤْمِنُونَ}. أي الذين حق عليهم غضب الله وسخطه بمعصيتهم لا يوحدون .
{وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)}
قوله:{ولو جاءتهم كل آية } أي: لا يؤمنون ولو جاءتهم كل موعظة وعبرة ، فعاينوها ، {حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ }، حتى يعاينوا العذاب الشديد.
{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (98)}.
قوله:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} فهلا كانت قرية آمنت؟ أي: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب، ونـزول سَخَط الله بها ، بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه، {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ}، فإنهم نفعهم إيمانهم بعد أن حضرتهم العقوبة . فاستثنى الله قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نـزول العذاب بساحتهم، وأخبر خلقه أنه نفعهم أيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم.
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)}
قوله تعالى : { ولو شاء ربك } يا محمد ، { لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه كان حريصا على أن يؤمن جميع الناس ، فأخبره الله جل ذكره : أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة ، ولا يضل إلا من سبق له الشقاوة .
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)}
قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ} (ما) نافية ، والمعنى: هذا لا يحدث أبدا ، { إلا بإذن الله} بأمر الله . {ويجعل الرجس} أي: العذاب ، {على الذين لا يعقلون} عن الله أمره ونهيه .
{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (101)}
قوله:(قل انظروا} أي : قل للمشركين الذين يسألونك الآيات انظروا ، { ماذا في السماوات والأرض } من الآيات والدلائل والعبر، ففي السماوات الشمس والقمر والنجوم وغيرها ، وفي الأرض الجبال والبحار والأنهار والأشجار وغيرها ، {وما تغني الآيات والنذر } الدلائل والرسل ، { عن قوم لا يؤمنون } وهذا في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون .
{فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ ۚ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102)}
قوله: {فهل ينتظرون} يعني : مشركي مكة ، { إلا مثل أيام الذين خلوا } مضوا ، { من قبلهم } من مكذبي الأمم، مثل وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. {قل فانتظروا} أي: تربصوا؛ وهذا تهديد ووعيد{إني معكم من المنتظرين } أي المتربصين لموعد ربي .
{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)}
قوله:{ ثم ننجي رسلنا } من مكاره الدنيا والآخرة، وشدائدهما، { والذين آمنوا } معهم عند نزول العذاب، { كذلك } كما نجيناهم ، {حَقًّا عَلَيْنَا } أوجبناه على أنفسنا ، { نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ } أي: تحصل لهم النجاة من المكاره
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)}
قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني} الذي أدعوكم إليه .{ فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } من الأوثان ، {ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم} يميتكم ويقبض أرواحكم ، { وأمرت أن أكون من المؤمنين } . أي المصدقين بآيات ربهم .
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)}
قوله : {وأن أقم وجهك للدين حنيفا } أي: أخلص أعمالك الظاهرة والباطنة لله، وأقم جميع شرائع الدين مقبلاً على الله، معرضًا عما سواه، . { ولا تكونن من المشركين } لا في حالهم، ولا معهم.
{وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)}
{ ولا تدع } ولا تعبد ، {من دون الله ما لا ينفعك } إن أطعته ، {ولا يضرك } إن عصيته ، { فإن فعلت } فعبدت غير الله ، {فإنك إذا من الظالمين} الضارين لأنفسهم الواضعين للعبادة في غير موضعها .
{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)}
قوله: ( وإن يمسسك الله بضر ) أي : يصبك بشدة وبلاء ، ( فلا كاشف له إلا هو ) فلا دافع له إلا الله.
{وإن يردك بخير} رخاء ونعمة وسعة ، {فلا راد لفضله} فلا مانع لرزقه ، { يصيب به من يشاء من عباده} بكل واحد من الضر والخير ، {وهو الغفور الرحيم } . أي : لمن تاب إليه وتوكل عليه ، ولو من أي ذنب كان ، حتى من الشرك به ، فإنه يتوب عليه .
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108)}
قوله: {قل ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم} يعني: القرآن والإسلام، { فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ) أي: على نفسه، ووباله عليه، (وما أنا عليكم بوكيل } أي : وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين به ، وإنما أنا نذير لكم ، والهداية على الله تعالى .
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}
قوله:{ واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله } بنصرك وقهر عدوك وإظهار دينه ، {وهو خير الحاكمين } فحكم بقتال المشركين وبالجزية على أهل الكتاب يعطونها عن يد وهم صاغرون.
تم تفسير سورة يونس ، ولله الحمد والمنَّة.