الدرس 122 الدعوة إلى الله

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 17 محرم 1443هـ | عدد الزيارات: 414 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

الدعوة إلى الله شأنها عظيم ، وهي من أهم الفروض والواجبات على المسلمين عموماً وعلى العلماء بصفة خاصة ، وهي منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وطريق أتباعهم إلى يوم القيامة ، فالأمة كلها من أولها إلى آخرها بحاجة شديدة ، بل في ضرورة إلى الدعوة إلى الله ، والتبصير في دين الله ، والترغيب في التفقه فيه والاستقامة عليه ، والتحذير مما يضاده أو يضاد كماله الواجب أو ينقص ثواب أهله ويضعف إيمانهم .

فالواجب على أهل العلم بشريعة الله أينما كانوا أن يقوموا بمهمة الدعوة لأن الناس في أشد الضرورة إلى ذلك في مشارق الأرض ومغاربها ، ونحن في غربة من الإسلام وقلة من علماء الحق ، وكثرة من أهل الجهل والباطل والشر والفساد ، والله سبحانه وتعالى أوجب على العلماء أن يبينوا ، وأوجب على العامة أن يقبلوا الحق وأن يستفيدوا من العلماء وأن يقبلوا النصيحة ، يقول الله عز وجل " ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين " فصلت 33 ، فأحسن الناس قولاً من دعا إلى الله وأرشد إليه وعلم العباد دينهم وفقههم فيه وصبر على ذلك وعمل بدعوته ولم يخالف قوله فعله ولا فعله قوله ، وهم الرسل الكرام والأنبياء وأتباعهم من علماء الحق .
فالواجب على كل عالم وطالب علم أن يقوم بهذا العمل حسب طاقته وعلمه وقد يتعين عليه إذا لم يكن في البلد أو في القبيلة أو في المكان الذي وقع فيه المنكر غيره فإنه يجب عليه عيناً أن يقول الحق وأن يدعو إليه ، وعند وجود غيره يكون فرض كفاية إذا قام به البعض كفى وإن سكتوا عنه أثموا جميعاً .

وأهلك كذلك يلزمك أن تعنى بهم أولاً كما قال الله سبحانه وتعالى " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة " التحريم 6 ، وقال عز وجل لنبيه وخليله محمد عليه الصلاة والسلام " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها " طه 132 ، وقد أمر الله بالدعوة في آيات ورغب فيها سبحانه كما في قوله عز وجل " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " النحل 125 ، وأخبر سبحانه أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيل النبي صلى الله عليه وسلم وهي سبيل أتباعه من أهل العلم كما قال الله عز وجل " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " يوسف 108 .

فالواجب حينئذ يتأكد على العلماء في الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما خُلقوا له من توحيد الله وطاعته وأداء واجبه وترك معصيته ، يقول سبحانه " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الذاريات 56 ، ويقول سبحانه " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون " البقرة 21 ، وهذه العبادة هي التي خلقنا لها وأمرنا بها وبعثت الرسل عليهم الصلاة والسلام لبيانها وللدعوة إليها فلابد من بيانها للناس من أهل العلم ، وهي الإسلام والهدى وهي الإيمان والبر والتقوى ، هذه هي العبادة التي خلقنا لها أن نطيع الله ونطيع رسوله صلى الله عليه وسلم في الأوامر والنواهي ، وأن نخصه بالعبادة دون كل ما سواه ، وهذه الطاعة تسمى عبادة ، لأنك تؤديها بذل وخضوع لله ، والعبادة ذل وخضوع لله عز وجل وانكسار بين يديه بطاعة أوامره وترك نواهيه ، وأصلها وأساسها توحيده والإخلاص له وتخصيصه بالعبادة وحده دون كل ما سواه ، والإيمان برسله عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم خاتمهم وإمامهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، ثم فعل ما أوجب الله من بقية الأوامر وترك ما نهى الله عنه ، هذه هي العبادة ، وهذه هي التقوى ، وهذه هي الإسلام الذي قال الله فيه " إن الدين عند الله الإسلام " آل عمران 19 ، وهي الإيمان أيضاً الذي قال الله فيه جل وعلا " يا أيها الذين آمنوا آمِنُوا بالله ورسوله " النساء 136 ، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم " الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " .(الحديث ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - باختلاف يسير فقد جاء بلفظ:"الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ،"

فالدعوة إلى الله جل وعلا دعوة إلى هذا الأمر ، دعوة إلى عبادة الله التي خلقنا لها ، دعوة إلى الاستقامة على ذلك ، دعوة إلى طاعة الله ورسوله ، دعوة إلى الإسلام ، دعوة إلى البر ، دعوة إلى الإيمان ، والمعنى أنك تدعو الناس إلى توحيد الله ، وإخلاص العبادة له ، وطاعة أوامره وترك نواهيه ، وهذا الذي تدعو إليه يسمى إسلاماً ويسمى عبادة ، ويسمى تقوى ، ويسمى طاعة الله ورسوله ، ويسمى براً ويسمى هدى ويسمى صلاحاً وإصلاحاً كلها أسماء متقاربة المعنى .

فالواجب أن يكون وقت العالم معموراً بالدعوة والخير وأن لا يشغله شاغل عن دعوة الناس وتعريفهم بدين الله ، وأن تكون أوقاته معمورة بطاعة الله ، والدعوة إلى سبيله والصبر على ذلك كما صبر الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فمن أراد من أهل العلم أن يكون من أتباعه على الحقيقة فعليه بالدعوة إلى الله على بصيرة حتى يكون من أتباعه على الحقيقة ينفع الناس وينفع نفسه ثم له بذلك مثل أجورهم ولو كانوا ملايين ، هذه نعمة عظيمة وفائدة كبيرة ، لك يا عبد الله الداعي إلى الله لك مثل أجور من هداه على يديك ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم " من دلَّ على خير فله مثلُ أجرِ فاعلِهِ " ، وهذا أمر عظيم من دعا إلى خير فله مثل أجر فاعله ، دعوت كافراً فأسلم يكون لك مثل أجره ، دعوت مبتدعاً فترك البدعة يكون لك مثل أجره ، دعوت إنساناً يتعامل بالربا فأطاعك يكون لك مثل أجره ، دعوت إنساناً يتعاطى المسكر فأجابك يكون لك مثل أجره ، دعوت إنساناً عاقا لوالديه فأطاعك وبر والديه يكون لك مثل أجره ، دعوت إنساناً يغتاب الناس فترك الغيبة يكون لك مثل أجره ، وهكذا .
والحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم "مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا، ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عليه مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن آثامِهِمْ شيئًا. " رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

فأنت يا عبد الله إن دعوت إلى خير فلك مثل أجور المهتدين على يديك ، وإن دعوت إلى شر فعليك مثل أوزارهم وآثامهم ، نسأل الله العافية ، وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي لما بعثه لخيبر "فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لكَ مِن حُمْر النَّعَمِ." (هذه إحدي روايات البخاري، ولفظ مسلم باختلاف يسير"...خَيْرٌ لكَ مِن أَنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ"، والمقصود خير من الدنيا وما عليها ، وهكذا لو كنت في بلاد فيها كفار فدعوتهم وهداهم الله على يديك لك مثل أجورهم ولك بكل واحد خير من حمر النعم .

أما أسلوب الدعوة فبيَّنه الرب جل وعلا وهو الدعوة بالحكمة أي بالعلم والبصيرة ، بالرفق واللين لا بالشدة والغلظة هذا هو الأسلوب الشرعي في الدعوة إلا من ظلم ، فمن ظلم يعامل بما يستحق لكن من يتقبل الدعوة ويصغي إليها أو ترجو أن يتقبلها لأنه لم يعارضك ولم يظلمك فارفق به .

يقول جل وعلا في كتابه العظيم " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " النحل 125 ، فالحكمة هي العلم ، قال الله وقال رسوله، والموعظة الحسنة الترغيب والترهيب تبين ما في طاعة الله من الخير العظيم وما في الدخول في الإسلام من الخير العظيم وما عليه إذا استكبر ولم يقبل الحق إلى غير ذلك ، أما الجدال بالتي هي أحسن فمعناه بيان الأدلة من غير عنف عند وجود الشبهة لإزالتها وكشفها ، فعند المجادلة تجادل بالتي هي أحسن وتصبر وتتحمل كما في الآية الأخرى يقول سبحانه " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم " العنكبوت 46 ، فالظالمون لهم شأن آخر ، لكن ما دمت تستطيع الجدال بالتي هي أحسن وهو يتقبل أو ينصت أو يتكلم بأمر لا يعد فيه ظالماً ولا معتدياً فاصبر وتحمل بالموعظة والأدلة الشرعية والجدال الحسن ، يقول الله سبحانه " وقولوا للناس حسناً " البقرة 83 ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " البرُ حُسنُ الخلقِ "(رواه مسلم عن النواس بن سمعان الأنصاري) ، وقد أثنى الله على النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدعوة فقال جل وعلا " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك " آل عمران 159 ، ونبينا أكمل الناس في دعوته وأكمل الناس في إيمانه لو كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله وتركوه فكيف أنت ، فعليك أن تصبر وعليك أن تتحمل ولا تعجل بسب أو كلام سيئ أو غلظة ، وعليك باللين والرحمة والرفق .

ولما بعث الله موسى وهارون لفرعون ماذا قال لهما؟ قال سبحانه " فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " طه 44 ، فأنت كذلك لعل صاحبك يتذكر أو يخشى ، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشقَّ عليهم فاشقق عليه "(الحديث رواه مسلم عن عائشة أم المؤمنين بهذا اللفظ"اللَّهُمَّ، مَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شيئًا فَشَقَّ عليهم، فَاشْقُقْ عليه، وَمَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شيئًا فَرَفَقَ بهِمْ، فَارْفُقْ بهِ."، وهذا وعد عظيم في الرفق ووعيد عظيم في المشقة.
فالواجب على الداعي إلى الله أن يتحمل وأن يستعمل الأسلوب الحسن الرفيق اللين في دعوته للمسلمين والكفار جميعاً ، فالأسلوب الحسن من أعظم الوسائل لقبول الحق ، والأسلوب السيئ العنيف من أخطر الوسائل في رد الحق وعدم قبوله وإثارة القلاقل والظلم والعدوان والمضاربات ، ويلحق بهذا الباب ما قد يفعله بعض الناس من المظاهرات التي قد تسبب شراً عظيماً على الدعاة فالمسيرات في الشوارع والهتافات والمظاهرات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة ، فالطريق الصحيح بالزيارة والمكاتبة التي هي أحسن ، فتنصح الرئيس والأمير وشيخ القبيلة بهذا الطريق لا بالعنف والمظاهرة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة لم يستعمل المظاهرات ولا المسيرات ولم يهدد الناس بتخريب أموالهم واغتيالهم.

ولا شك أن هذا الأسلوب يضر الدعوة والدعاة ويمنع انتشارها ويحمل الرؤساء والكبار على معاداتها ومضادتها بكل ممكن فهم يريدون الخير بهذا الأسلوب لكن يحصل به ضده ، فكون الداعي إلى الله يسلك مسلك الرسل وأتباعهم ولو طالت المدة أولى به من عمل يضر الدعوة ويضايقها أو يقضي عليها ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فالنصيحة مني لكل داعٍ إلى الله أن يستعمل الرفق في كلامه وفي خطبته وفي مكاتباته وفي جميع تصرفاته حول الدعوة ، يحرص على الرفق مع كل أحد إلا من ظلم ، وليس هناك طريق أصلح للدعوة من طريق الرسل فهم القدوة وهم الأئمة وقد صبروا ، صبر نوح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وصبر هود ، وصبر صالح ، وصبر شعيب ، وصبر إبراهيم ، وصبر لوط ، وهكذا غيرهم من الرسل ثم أهلك الله أقوامهم بذنوبهم وأنجى الله الأنبياء وأتباعهم .

فلك أيها الداعية أسوة في هؤلاء الأنبياء والأخيار ، ولك أسوة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي صبر في مكة وصبر في المدينة على وجود اليهود عنده والمنافقين ومن لم يسلم من الأوس والخزرج حتى هداهم الله وحتى يسر الله إخراج اليهود وحتى مات المنافقون بغيظهم ، فاصبر وصابر واستعمل الرفق ودع عنك العنف ودع كل سبب يضيق على الدعوة ويضرها ويضر أهلها ، واذكر قوله تعالى يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم " الأحقاف 35 .
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح وحسن الدعوة إليه ، وأن يوفق علماءنا جميعاً في كل مكان ودعاة الحق في كل مكان للعلم النافع والبصيرة ، والسير على المنهج الذي سار عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام في الدعوة إليه وإبلاغ الناس دينه ، إنه جل وعلا جواد كريم .

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

17 - 1 - 1443هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر