الدرس 94 معنى قوله تعالى " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك "

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 2 شهر رمضان 1442هـ | عدد الزيارات: 473 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

قول الله تعالى " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً * فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " النساء 64 ، 65 ، هذه الآية الكريمة فيها حث الأمة على المجيء إليه إذا ظلموا أنفسهم بشيء من المعاصي ، أو وقعوا فيما هو أكبر من ذلك من الشرك ، أن يجيئوا إليه تائبين نادمين حتى يستغفر لهم عليه الصلاة والسلام ، والمراد بهذا المجيء : المجيء إليه في حياته صلى الله عليه وسلم وهو يدعو المنافقين وغيرهم إلى أن يأتوا إليه ليعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى الله ، ويطلبوا منه عليه الصلاة والسلام أن يسأل الله أن يقبل توبتهم وأن يصلح أحوالهم ولهذا قال " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله " النساء 64 ، فطاعة الرسول إنما تكون بإذن الله ، يعني الإذن الكوني القدري ، فمن أذن الله له وأراد هدايته اهتدى ، ومن لم يأذن الله في هدايته لم يهتد ، فالأمر بيده سبحانه ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن " وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين " التكوير 29 .

أما الإذن الشرعي فقد أذن سبحانه لجميع الثقلين أن يهتدوا وأراد منهم ذلك شرعاً وأمرهم به ، كما قال تعالى " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " البقرة 21 ، وقال سبحانه " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم " النساء 26 ، ثم قال " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله " النساء 64 ، أي تائبين نادمين لا مجرد قول ، " واستغفر لهم الرسول " أي : دعا لهم بالمغفرة ، " لوجدوا الله تواباً رحيماً " فهو حث لهم ، أي للعباد على أن يأتوا للرسول صلى الله عليه وسلم ليعلنوا عنده توبتهم وليسأل الله لهم ، وليس المراد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كما يظنه بعض الجهال ، فالمجيء إليه بعد موته لهذا الغرض غير مشروع ، وإنما يؤتى للسلام عليه لمن كان في المدينة أو وصل إليها من خارجها لقصد الصلاة بالمسجد والقراءة فيه ونحو ذلك ، فإذا أتى المسجد سلَّم على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه ، لكن لا يشد الرحل من أجل زيارة القبر فقط ، بل من أجل المسجد وتكون الزيارة لقبره صلى الله عليه وسلم ، وقبر الصديق ، وعمر رضي الله عنهما تابعة لزيارة المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى " متفق على صحته ،قلت ورد الحديث في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بهذا اللفظ" لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى.." فالقبور لا تشد إليها الرحال ، ولكن متى وصل إلى المسجد النبوي فإنه يُشرع له أن يسلم عليه صلى الله عليه وسلم ، ويسلم على صاحبيه رضي الله عنهما.

وأما ما يتعلق بالاستغفار : فهذا يكون في حياته لا بعد وفاته ، والدليل على هذا أن الصحابة لم يفعلوا ذلك ، وهم أعلم الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأفقه الناس في دينه ، ولأنه عليه السلام لا يملك ذلك بعد وفاته ، كما قال صلى الله عليه وسلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " .قلت: ورد الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة بهذا اللفظ"إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له."
وأما ما أخبر به عليه الصلاة والسلام أن من صلَّى عليه تعرض صلاته عليه فذلك شيء خاص يتعلق بالصلاة عليه ، ومن صلى عليه صلى الله عليه بها عشراً، قال عليه الصلاة والسلام " أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي ، قيل : يا رسول الله كيف وقد أرمت ؟ أي : بليت ، قال : إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " قلت رواه أبو داود وصححه الألباني بهذا اللفظ "إنَّ من أفضلِ أيَّامِكُم يومَ الجمعةِ فيهِ خُلِقَ آدمُ وفيهِ قُبِضَ وفيهِ النَّفخةُ وفيهِ الصَّعقةُ فأكْثِروا عليَّ منَ الصَّلاةِ فيهِ فإنَّ صلاتَكُم معروضةٌ عليَّ قالَ قالوا يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ تُعرَضُ صلاتُنا عليكَ وقد أرِمتَ - يقولونَ بليتَ - فقالَ إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ حرَّمَ علَى الأرضِ أجسادَ الأنبياءِ"، فهذا حكم خاص بالصلاة عليه ، وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام "قلت : رواه النسائي عن عبد الله بن مسعود وصححه الألباني بلفظ"إنَّ للَّهِ ملائِكةً سيَّاحينَ في الأرضِ ، يُبلِّغوني من أُمَّتي السَّلامَ" ، فهذا شيء خاص للرسول صلى الله عليه وسلم وأنه يُبلَّغُ ذلك .

وأما أن يأتي من ظلم نفسه ليتوب عند القبر ويستغفر عند القبر فهذا لا أصل له ، بل هو منكر ولا يجوز وهو وسيلة للشرك ، مثل أن يأتي فيسأله الشفاعة أو شفاء المريض أو النصر على الأعداء أو نحو ذلك ، أو يسأله أن يدعو له فهذا لا يجوز ، لأن هذا ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ولا من خصائص غيره ، فكل من مات لا يُدعى ولا يُطلب منه الشفاعة لا النبي ولا غيره وإنما الشفاعة تطلب منه في حياته ، فيقال : يا رسول الله اشفع لي أن يغفر الله لي ، اشفع لي أن يشفي الله مريضي ، وأن يرد غائبي وأن يعطيني كذا وكذا ، وهكذا يوم القيامة بعد البعث والنشور ، فإن المؤمنين يأتون آدم ليشفع لهم إلى الله حتى يقضي بينهم فيعتذر ويحيلهم إلى نوح فيأتونه فيعتذر ثم يحيلهم نوح إلى إبراهيم فيعتذر فيحيلهم إبراهيم إلى موسى فيعتذر ثم يحيلهم موسى إلى عيسى فيعتذر عليهم جميعاً الصلاة والسلام ثم يحيلهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتونه فيقول عليه الصلاة والسلام : أنا لها أنا لها فيتقدم ويسجد تحت العرش ويحمد ربه بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه ثم يقال له ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع فيشفع صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف حتى يقضى بينهم ،قلت الحديث رواه البخاري عن أنس بن مالك بهذا اللفظ "فأقُولُ: أنَا لَهَا، فأسْتَأْذِنُ علَى رَبِّي، فيُؤْذَنُ لِي، ويُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أحْمَدُهُ بهَا لا تَحْضُرُنِي الآنَ، فأحْمَدُهُ بتِلْكَ المَحَامِدِ، وأَخِرُّ له سَاجِدًا، فيَقولُ: يا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقُولُ: يا رَبِّ، أُمَّتي أُمَّتِي، فيَقولُ: انْطَلِقْ فأخْرِجْ منها مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِن إيمَانٍ الحديث " وهكذا يشفع في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة ، لأنه صلى الله عليه وسلم موجود ، أما في البرزخ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا يُسأل الشفاعة ولا يُسأل شفاء المريض ولا رد الغائب ولا غير ذلك من الأمور ، وهكذا بقية الأموات لا يُسألون شيئاً من هذه الأمور ، بل يُدعى لهم ويُستغفر لهم إذا كانوا مسلمين ، وإنما تُطلب هذه الأمور من الله سبحانه ، مثل أن يقول المسلم : اللهم شفع فيّ نبيك عليه الصلاة والسلام ، اللهم اشف مريضي ، اللهم انصرني على عدوي ، ونحو ذلك ، لأنه سبحانه يقول " ادعوني أستجب لكم " غافر 60 ، ويقول عز وجل " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقرة 186 .
أما قوله تعالى " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " النساء 65 ، فهي عامة على ظاهرها ، فلا يجوز للمسلمين أن يخرجوا عن شريعة الله ، بل يجب عليهم أن يحكموا شرع الله في كل شيء ، فيما يتعلق بالعبادات ، وفيما يتعلق بالمعاملات ، وفي جميع الشئون الدينية والدنيوية لكونها تعم الجميع ، ولأن الله سبحانه يقول " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون " المائدة 50 ، ويقول " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " المائدة 44 ، ويقول " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " المائدة 45 ، ويقول " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " المائدة 47 ، فهذه الآيات عامة لجميع الشئون التي يتنازع فيها الناس ويختلفون فيها ، ولهذا قال سبحانه " فلا وربك لا يؤمنون " يعني الناس من المسلمين وغيرهم " حتى يحكموك " يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، وذلك بتحكيمه صلى الله عليه وسلم حال حياته وتحكيم سنته بعد وفاته ، فالتحكيم لسنته هو التحكيم لما أُنزل من القرآن والسنة " فيما شجر بينهم " أي : فيما تنازعوا فيه ، هذا هو الواجب عليهم أن يحكموا القرآن الكريم ، والرسول صلى الله عليه وسلم ، في حياته وبعد وفاته باتباع سنته التي هي بيان القرآن الكريم وتفسير له ودلالة على معانيه .

أما قوله سبحانه " ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " فمعناه أنه يجب أن تنشرح صدورهم لحكمه ، وألا يبقى في صدروهم حرج مما قضى بحكمه عليه الصلاة والسلام ، لأن حكمه هو الحق الذي لا ريب فيه وهو حكم الله عز وجل ، فالواجب التسليم له وانشراح الصدر بذلك وعدم الحرج ، بل عليهم أن يسلموا لذلك تسليماً كاملاً رضاً بحكم الله واطمئناناً إليه ، هذا هو الواجب على جميع المسلمين فيما شجر بينهم من دعاوى وخصومات ، سواء كانت متعلقة بالعبادات أو بالأموال أو بالأنكحة أو الطلاق أو بغيرها من شئونهم.
وهذا الإيمان المنفي هو أصل الإيمان بالله ورسوله بالنسبة إلى تحكيم الشريعة والرضا بها والإيمان بأنها الحكم بين الناس ، فلابد من هذا ، فمن زعم أنه يجوز الحكم بغيرها أو قال إنه يجوز أن يتحاكم الناس إلى الآباء أو إلى الأجداد أو إلى القوانين الوضعية التي وضعها الرجال سواء كانت شرقية أو غربية ، فمن زعم أن هذا يجوز فإن الإيمان منتف عنه ويكون بذلك كافراً كفراً أكبر .
فمن رأى أن شرع الله لا يجب تحكيمه ولكن لو حُكِّم كان أفضل ، أو رأى أن القانون أفضل ، أو رأى أن القانون يساوي حكم الله فهو مرتد عن الإسلام . وهي ثلاثة أنواع :
النوع الأول : أن يقول إن الشرع أفضل ولكن لا مانع من تحكيم غير الشرع .
النوع الثاني : أن يقول إن الشرع والقانون سواء ولا فرق .
النوع الثالث : أن يقول إن القانون أفضل وأولى من الشرع ، وهذا أقبح الثلاثة ، وكلها كفر وردة عن الإسلام .

أما الذي يرى أن الواجب تحكيم شرع الله ، وأنه لا يجوز تحكيم القوانين ولا غيرها مما يخالف شرع الله ولكنه قد يحكم بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه ضد المحكوم عليه ، أو لرشوة ، أو لأمور سياسية ، أو ما أشبه ذلك من الأسباب وهو يعلم أنه ظالم ومخطئ ومخالف للشرع ، فهذا يكون ناقص الإيمان ، وقد انتفى في حقه كمال الإيمان الواجب ، وهو بذلك يكون كافراً كفراً أصغر وظالماً ظلماً أصغر وفاسقاً فسقاً أصغر ، كما صح معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وجماعة من السلف رحمهم الله ، وهو قول أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن سلك سبيلهم .
والله ولي التوفيق .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه

1 - 9 - 1442هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 122 ‌‌مكانة المرأة في الإسلام - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 121 الجزء الثالث عوامل النصر  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 120 الجزء الثالث ‌‌حكم الإسلام في إحياء الآثار - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 119 الجزء الثالث ‌‌القول بإباحة تحديد النسل مخالف للشريعة والفطرة ومصالح الأمة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 118 الجزء الثالث ‌‌هل الرسول أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه ؟ - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر