الدرس 93 حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 2 شهر رمضان 1442هـ | عدد الزيارات: 779 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

فقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار على قولين :-
أحدهما : المنع من ذلك ، واحتجوا على ذلك بما يلي :
أولا : ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها " أن رجلاً من المشركين كان معروفاً بالجرأة والنجدة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى بدر في حرة الوبرة فقال : جئت لأتبعك وأصيب معك ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا ، قال : ارجع فلن أستعين بمشرك ، قالت : ثم مضى حتى إذا كنا في الشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال له أول مرة ، فقال : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا ، قال : ارجع فلن أستعين بمشرك ، ثم لحقه في البيداء فقال مثل قوله ، فقال له : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : نعم ، قال : فانطلق " .

قلت : ورد الحديث في صحيح مسلم بهذا اللفظ"خَرَجَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كانَ بحَرَّةِ الوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قدْ كانَ يُذْكَرُ منه جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قالَ لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ، وَأُصِيبَ معكَ، قالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: تُؤْمِنُ باللَّهِ وَرَسولِهِ؟ قالَ: لَا، قالَ: فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بمُشْرِكٍ. قالَتْ: ثُمَّ مَضَى حتَّى إذَا كُنَّا بالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقالَ له كما قالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقالَ له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كما قالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قالَ: فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بمُشْرِكٍ، قالَ: ثُمَّ رَجَعَ فأدْرَكَهُ بالبَيْدَاءِ، فَقالَ له كما قالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: تُؤْمِنُ باللَّهِ وَرَسولِهِ؟ قالَ: نَعَمْ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: فَانْطَلِقْ."

واحتجوا أيضاً بما رواه الحاكم في صحيحه من حديث يزيد بن هارون أنبأنا مستلم بن سعيد الواسطي عن خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب عن أبيه عن جده خبيب بن يساف قال : أتيت أنا ورجل من قومي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزواً فقلت : يا رسول الله إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم ، فقال : أسلما ، فقلنا : لا ، قال : فإنا لا نستعين بالمشركين ، قال : فأسلمنا وشهدنا معه " الحديث ، قال الحاكم : حديث صحيح الإسناد .

وعن أبي حميد الساعدي قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى إذا خلف ثنية الوداع نظر وراءه فإذا كتيبة حسناء ، فقال : من هؤلاء ؟ قالوا : هذا عبد الله بن أبي بن سلول ومواليه من اليهود وهم رهط عبد الله بن سلام ، فقال : هل أسلموا ؟ قالوا : لا إنهم على دينهم ، قال : قولوا لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين " .
وقال الحازمي في كتاب الناسخ والمنسوخ : وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة فذهب جماعة إلى منع الاستعانة بالمشركين ، ومنهم أحمد مطلقاً ، وتمسكوا بحديث عائشة المتقدم وقالوا : إن ما يعارضه لا يوازيه في الصحة ، فتعذر ادعاء النسخ .

وذهبت طائفة إلى أن للإمام أن يأذن للمشركين أن يغزوا معه ويستعين بهم بشرطين :-
أحدهما : أن يكون بالمسلمين قلة بحيث تدعو الحاجة إلى ذلك .
والثاني : أن يكونوا ممن يوثق بهم في أمر المسلمين ، ثم أسند إلى الشافعي أنه قال الذي روى مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم رد مشركاً أو مشركين وأَبَى أن يستعين بمشرك كان في غزوة بدر ، ثم إنه عليه السلام استعان في غزوة خيبر بعد بدر بسنتين بيهود من بني قينقاع واستعان في غزوة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك ، فالرد الذي في حديث مالك إن كان لأجل أنه مخير في ذلك بين أن يستعين به وبين أن يرده ، كما له رد المسلم لمعنى يخافه فليس واحد من الحديثين مخالفاً للآخر ، وإن كان لأجل أنه مشرك فقد نسخه ما بعده من استعانته بالمشركين .

ولا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعاً ويرضخ لهم ولا يسهم لهم ، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسهم لهم ، قال الشافعي : ولعله عليه السلام إنما رد المشرك الذي رده في غزوة بدر رجاء إسلامه قال : وذلك واسع للإمام أن يرد المشرك ويأذن له ، وكلام الشافعي كله نقله البيهقي عنه.
وقال النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم ما نصه : قوله : عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة ، هكذا ضبطناه بفتح الباء وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم قال : وضبطه بعضهم بإسكانها وهو موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة ، قوله صلى الله عليه وسلم فارجع فلن أستعين بمشرك ، وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه .
وقال الشافعي وآخرون : إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به أستعين به وإلا فيكره ، وحمل الحديثين على هذين الحالين ، وإذا حضر الكافر بالإذن رضخ له ولا يسهم والله أعلم .
وقال الوزير ابن هبيرة في كتابه الإفصاح عن معاني الصحاح ما نصه : واختلفوا : هل يستعان بالمشركين على قتال أهل الحرب أو يعاونون على عدوهم ؟ فقال مالك وأحمد : لا يستعان بهم ولا يعاونون على الإطلاق ، واستثنى مالك : إلا أن يكونوا خدماً للمسلمين فيجوز ، وقال أبو حنيفة : يستعان بهم ويعاونون على الإطلاق ، ومتى كان حكم الإسلام هو الغالب الجاري عليهم ، فإن كان حكم الشرك هو الغالب كره .

وقال الشافعي : يجوز ذلك بشرطين : أحدهما : أن يكون بالمسلمين قلة وبالمشركين كثرة ، والثاني : أن يعلم من المشركين حسن رأي في الإسلام وميل إليه ، فإن أستعين بهم رضخ لهم ولم يسهم لهم ، إلا أن أحمد قال في إحدى روايتيه : يسهم لهم ، وقال الشافعي : إن استؤجروا أعطوا من مال لا مالك له بعينه ، وقال في موضع آخر : ويرضخ لهم من الغنيمة ، قال الوزير : وأرى ذلك مثل الجزية والخراج .
القول الثاني : جواز الاستعانة بالمشركين في قتال المشركين عند الحاجة أو الضرورة واحتجوا على ذلك بأدلة منها قوله جل وعلا في سورة الأنعام " وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه " الأنعام 119 ، واحتجوا أيضاً بما نقله الحازمي عن الشافعي رحمه الله فيما ذكرنا آنفاً في حجة أصحاب القول الأول ، وسبق قول الحازمي رحمه الله نقلاً عن طائفة من أهل العلم أنهم أجازوا ذلك بشرطين :
أحدهما : أن يكون في المسلمين قلة بحيث تدعو الحاجة إلى ذلك .
الثاني : أن يكونوا ممن يوثق بهم في أمر المسلمين .
واحتج القائلون بالجواز أيضاً بما رواه أحمد وأبو داود عن ذي مخمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ستصالحون الروم صلحاً آمناً وتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم فتنصرون وتغنمون "قلت رواه أبو داود وصححه الألباني بهذا اللفظ"ستُصالِحونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، فتَغزُونَ أنتم وهُمْ عَدُوًّا مِن وَرائِكُم، فتُنْصَرون وتَغْنَمون" ، ولم يذمهم على ذلك فدلَّ على الجواز ، وهو محمول على الحاجة أو الضرورة كما تقدم .
وقال المجد ابن تيمية في المحرر في الفقه ما نصه : ولا يستعين بالمشركين إلا لضرورة ، وعنه : إن قوي جيشه عليهم وعلى العدو ولو كانوا معه ولهم حسن رأي في الإسلام جاز وإلا فلا .
وقال الموفق في المقنع ما نصه : ولا يستعين بمشرك إلا عند الحاجة .

وقال في المغني فصل ( ولا يستعان بمشرك ) وبهذا قال ابن المنذر والجوزجاني وجماعة من أهل العلم ، وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به ، وكلام الخرقي يدل عليه أيضاً عند الحاجة ، وهو مذهب الشافعي لحديث الزهري الذي ذكرناه ، وخبر صفوان بن أمية ، ويشترط أن يكون من يُستعان به حسن الرأي في المسلمين فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به ، لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يُؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى .

وقال الحافظ في التلخيص بعدما ذكر الأحاديث الواردة في جواز الاستعانة بالمشركين والأحاديث المانعة من ذلك ما نصه : ويُجمع بينه يعني حديث عائشة وبين حديث صفوان بن أمية : أن النبي صلى الله عليه وسلم تفرَّس فيه الرغبة في الإسلام فردَّه رجاء أن يسلم فصدق ظنه ، وفيه نظر من جهة التنكر في سياق النفي ومنها : أن الأمر فيه إلى رأي الإمام ، وفيه النظر بعينه ، ومنها : أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رُخِّص فيها وهذا أقربها وعليه نص الشافعي .
وقال الصنعاني رحمه الله في سبل السلام على شرحه لحديث عائشة رضي الله عنها : ارجع فلن أستعين بمشرك ، ما نصه : والحديث من أدلة من قال لا يجوز الاستعانة بالمشرك لقتال ، وهو قول طائفة من أهل العلم ، وذهب الهادوية وأبو حنيفة وأصحابه إلى جواز ذلك ، قالوا : لأنه استعان بصفوان بن أمية يوم حنين ، واستعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم ، أخرجه أبو داود والترمذي عن الزهري مرسلاً ، ومراسيل الزهري ضعيفة ، قال الذهبي : لأنه كان خطَّاء ، ففي إرساله شبهة تدليس .

وقد استعان يوم حنين بجماعة من المشركين تألفهم بالغنائم ، وقد اشترط الهادوية أن يكون معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام ، وفي شرح مسلم : أن الشافعي قال : إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة أستعين به وإلا فيكره .

ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعاً لاستعانته صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أُبي وأصحابه .
وهذا آخر ما تيسر نقله من كلام أهل العلم ، والله ولي التوفيق .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
1 - 9 - 1442هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر