الدرس السادس والسبعون: ثبوت دخول شهر رمضان

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 19 جمادى الأولى 1434هـ | عدد الزيارات: 4321 القسم: شرح زاد المستقنع -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد

إذا قامت البينة في دخول شهر رمضان أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه

مثل أن يكون الذي رآه في مكان بعيد وحضر إلى القاضي في النهار وشهد برؤيته فيجب الإمساك والقضاء

فوجوب الإمساك لا شك فيه ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وجب صوم عاشوراء أمر المسلمين بالإمساك عن الطعام في أثناء النهار فأمسكوا لحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم أن أذن في الناس من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء. متفق عليه، وهذا قبل فرضية صيام شهر رمضان وبعد فرض صيام شهر رمضان صار صيام عاشوراء سنة

فإذا دخل اليوم الأول من رمضان فهو يوم له حرمته ولا يمكن أن ينتهك بالفطر ولأن من شرط صيام الفرض أن ينوي قبل الفجر لأنه إذا لم ينو إلا في أثناء اليوم صار الصائم نصف اليوم وقد قال صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات

فلا يجزئ وعلى هذا فيلزمه القضاء لهذه العلة وهذا هو مذهب الإمام أحمد ومذهب الشافعية وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنه لا قضاء فيجب الإمساك دون القضاء وعلل ما ذهب إليه أن هؤلاء الذين يأكلون ويشربون قبل ثبوته بالنية كانوا يأكلون ويشربون بإذن الله فقد أحله الله لهم فهم لم ينتهكوا له حرمة بل هم جاهلون فيدخلون في عموم قوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" وقال إن النية تتبع العلم وأن الله لا يكلف أحداً أن ينوي ما لم يعلم والعلم لم يحدث إلا في أثناء النهار

ولا شك أن تعليله قوي رحمه الله لكن كون الإنسان يقضي يوماً ويبرئ ذمته عن يقين خيراً من كونه يأخذ بقول شيخ الإسلام رحمه الله وإن كان له حظ من النظر

فمن صار أهلاً لوجوبه كصبي بلغ في أثناء النهار ثم قامت البينة فيلزمه الإمساك لأنه صار في أثناء النهار من أهل الوجوب

وكذا حائض ونفساء طهرتا في أثناء نهار رمضان فإنه لا يلزمهما الإمساك وذلك لأن النهار في حقهما غير محترم إذ أنه يجوز لهما الفطر في أول النهار ظاهراً أو باطناً وكذلك فإن الإمساك لا تستفيدان به شيئاً ولكنه مجرد حرمان لهما وعليه فيلزمها القضاء فقط وهذه هي الرواية الأخرى في المذهب وهو الصحيح إن شاء الله

ومسافر قدم مفطراً فإنه لا يلزمه الإمساك وإنما يلزمه القضاء فقط وهذه هي الرواية الأخرى في المذهب . انظر كتاب الإنصاف 3/283

فالحائض والنفساء إذا طهرتا والمسافر إذا قدم مفطراً والمريض إذا برئ في أثناء النهار فلا يجب عليهم الإمساك في نهار رمضان إذا زال المانع أثناء النهار وإنما عليهم القضاء وبناء على ذلك إذا قدم الإنسان بلده مفطراً ووجد امرأته قد اغتسلت من الحيض لطهرها في أثناء رمضان فإنه يجوز له جماعها وهو القول الراجح إن شاء الله فإذا كان يحل لهم الأكل والشرب في أول النهار فليكن كذلك آخر النهار

وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه فمن أكل أول النهار فليأكل آخر النهار. أخرجه البيهقي

إضافة إلى أن المرأة إذا حاضت ومنعنا منها الأكل سيؤثر على صحتها وكذلك القادم من السفر إذا منعنا منه الأكل مع إنهاكه سيؤثر على صحته ومع كل ذلك لا دليل على منعهم من الأكل

ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكينا فالإنسان إذا كبر فإنه يشق عليه الصوم والكبر لا يرجى برؤه فلذلك فإنه يلزمه فدية وكذلك من أفطر لمرض لا يرجى برؤه مثل السرطان فإن السرطان لا يرجى برؤه فإذا مرض الإنسان بمرض السرطان وعجز عن الصوم صار حكمه كحكم الكبير الذي لا يستطيع الصوم فمرض السرطان لا يرجى برؤه من باب التغليب وإلا فالشفاء بيد الله فإذا مرض الإنسان بمرض السرطان وعجز عن الصوم صار حكمه كحكم الكبير الذي لا يستطيع الصوم فيلزمه فدية عن كل يوم إطعام مسكين كيلو ونصف من الأرز أو غيره من قوت البلد

ووجه سقوط الصوم عنه عدم القدرة والدليل على وجوب الفدية ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الشيخ والشيخه إذا لم يطيقا الصوم يطعمان لكل يوم مسكيناً وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " والحكم هنا صادر من صحابي ولا شك أنه إذا حكم الصحابي واستدل بالآية فإن استدلاله بالآيات أصح من استدلال غيره فما وجه الاستدلال بالآية مع أنه يمكن لكل واحد أن يقول إن الآية يقول الله فيها " وعلى الذين يطيقونه فدية " سورة البقرة آية 184

والكبير لا يطيقه فكيف استدل ابن عباس بهذه الآية على الذين يطيق

نقول إن استدلال ابن عباس رضي الله عنهما بهذه الآية استدلال عميق جداً ووجهه أن الله تعالى قال : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير وأن تصوموا خير لكم " فجعل الفدية معادلة للصوم وهذا في أول الأمر لما كان الناس مخيرين بين الصوم والفدية فلما تعذر أحد البديلين ثبت الآخر أي تعذر الصوم ثبتت الفدية

ومن أخذ بظاهر الآية قال إن الآية لا تدل على هذا فالآية تدل على أن الذي يطيق الصيام إما أن يفدي أو يصوم والصوم خير

لكن نقول وجه ذلك أن الله تعالى لما جعل الفدية عديلاً للصوم في مقام التخيير دل ذلك على أنها تكون بدلاً عنه في حالة عدم الصوم وهذا واضح وعلى هذا فمن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإنه يطعم عن كل يوم مسكينا

لكن ما الذي يطعم ؟

الجواب كل ما يسمى طعاماً من تمر أو بر أو أرز أو غيره فكل من عجز عن الصوم عجزا لا يرجى زواله وجب عليه الإطعام عن كل يوم نصف صاع من صاع النبي صلى الله عليه وسلم وهو كيلو ونصف أو ما يحصل به الإطعام فقد كان أنس بن مالك رضي الله عنه عندما كبر " يجمع ثلاثين فقيراً ويطعمهم خبزاً وأدما" أخرجه البخاري

وعلى هذا فإذا غدى المساكين أو عشاهم كفاه ذلك عن الفدية إذ يجزئ الإطعام أو التمليك

وإذا كان الصوم يضر المريض فإن الصوم حرام والفطر واجب لقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم " والنهي هنا يشمل قتل الروح ويشمل ما فيه الضرر

والدليل على أنه يشمل ما فيه الضرر حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما صلى بأصحابه وعليه جناية ولكنه خاف البرد فتيمم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ قال يا رسول الله تذكرت قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم " وإني خفت البرد فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فالمريض له أحوال

أولاً: ألا يتأثر بالصوم مثل الزكام اليسير أو الصداع اليسير ووجع الضرس وما أشبه ذلك فهذا لا يحل له أن يفطر ويجب عليه الصوم لأنه لا يتأثر به

الحالة الثانية : إذا كان يشق عليه الصوم ولا يضره فهذا يكره له أن يصوم ويسن له أن يفطر

الحالة الثالثة : إذا كان يشق عليه الصوم ويضره كرجل مصاب بمرض الكلى أو مرض السكر وما أشبه ذلك فالصوم عليه حرام

ويسن الفطر لمسافر يقصر وهو الذي يكون سفره بالغاً لمسافة القصر وسفر القصر على المذهب وعلى رأي جمهور العلماء يقدر بمسافة مسيرة يومين قاصدين للإبل وهي مسافة ستة عشر فرسخاً ومقدارها بالكيلو إحدى وثمانون كيلو وثلاثمائة وسبعة عشر متر بالتقريب لا بالتحديد فعلى هذا نقول إذا نوى الإنسان سفر هذه المسافة فإنه يقصر وحينئذ يسن له الفطر فالمسافر له ثلاث حالات

الحالة الأولى: ألا يكون لصومه مزية على فطره ولا لفطرة مزية على صومه ففي هذه الحال يكون الصوم أفضل له للأدلة الآتية

أولاً: أن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو الدرداء رضي الله عنه كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في يوم شديد الحر حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر ولا فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحه. أخرجه البخاري

ثانياً: أنه أسرع في إبراء الذمة لأن القضاء يتأخر والأداء وهو صيام رمضان يقدم

ثالثاً: أنه أسهل على المكلف غالباً لأن الصوم والفطر مع الناس أسهل من أن يستأنف الصوم بعد كما هو مجرب ومعروف

رابعاً: أنه يدرك الزمن الفاضل وهو رمضان فإن رمضان أفضل من غيره لأنه محل الوجوب

فلهذه الأدلة يترجح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أن الصوم أفضل في حق من يكون الصوم والفطر عنده سواء

الحالة الثانية: أن يكون الفطر أرفق به فهنا نقول إن الفطر أفضل وإذا شق عليه بعض الشيء صار الصوم في حقه مكروهاً

الحالة الثالثة : أن يشق عليه مشقة شديدة غير محتملة فهنا يكون الصوم في حقه حراماً والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شكى إليه الناس أنه قد شق عليهم الصيام وينتظرون ما سيفعل الرسول صلى الله عليه وسلم دعا بإناء به ماء بعد العصر وهو على بعير فأخذه وشربه والناس ينظرون إليه ثم قيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال أولئك العصاة فوصفهم بالعصاة. متفق عليه

وإذا سافر من لا يرجى زوال عجزه فإنه كالمقيم يلزمه الفدية فيطعم عن كل يوم مسكينا

وبالله التوفيق

وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1434-5 -18

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 1 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر