تفسير سورة المؤمنون

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 20 رجب 1440هـ | عدد الزيارات: 1658 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

سورة المؤمنون مكية وعدد آياتها 118

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( 5 ) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( 6 ) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( 7 ) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( 8 ) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 9 ) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ( 10 ) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 11 ) .

هذا تنويه من الله، بذكر عباده المؤمنين، وذكر فلاحهم وسعادتهم، وبأي: شيء وصلوا إلى ذلك، وفي ضمن ذلك الحث على الاتصاف بصفاتهم، والترغيب فيها. فليزن العبد نفسه وغيره على هذه الآيات، ليعرف بذلك ما معه وما مع غيره من الإيمان، زيادة ونقصاً، كثرة وقلة، فقوله ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) أي: قد فازوا وسعدوا ونجحوا، وأدركوا كل ما يرام المؤمنون الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ )

والخشوع في الصلاة: هو حضور القلب بين يدي الله تعالى، مستحضرا لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقل التفاته، متأدبا بين يدي ربه، مستحضرا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته، من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الرديئة، وهذا روح الصلاة، والمقصود منها، وهو الذي يكتب للعبد، فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب، وإن كانت مجزئة مثابا عليها، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها .

فإذا اشتغل بها عماعداها وآثرها على غيرها حينئذ تكون راحة له وقرة عين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد

و النسائي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " حُبِّبَ إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة "صححه الألباني.

( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ ) وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة، ( مُعْرِضُونَ ) رغبة عنه، وتنزيها لأنفسهم، وترفعا عنه،كما قال تعالى" وإذا مروا باللغو مروا كراما"الفرقان:72، وإذا كانوا معرضين عن اللغو، فإعراضهم عن المحرم من باب أولى وأحرى، وإذا ملك العبد لسانه وخزنه - إلا في الخير- كان مالكا لأمره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين وصاه بوصايا : « ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ » قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: « كف عليك هذا " رواه الترمذي وحسنه الألباني ، فالمؤمنون من صفاتهم الحميدة، كف ألسنتهم عن اللغو والمحرمات.

( وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ) أي مؤدون لزكاة أموالهم، على اختلاف أجناس الأموال،فأحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة.

( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من الزنا. ( إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) أي لا يقربون سوى أزواجهم التي احلها الله لهم وما ملكت أيمانهم من الإماء بالتسري بهن ومن تعاطى ما احله الله له فلا لوم عليه ولا حرج ولهذا قال ( فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) بقربهما، لأن الله تعالى أحلهما.

( فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ ) غير الزوجة والسرية ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) الذين تعدوا ما أحل الله إلى ما حرمه فهم المتجرئون على محارم الله. وعموم هذه الآية، يدل على تحريم نكاح المتعة، فإنها ليست زوجة مقصودا بقاؤها، ولا مملوكة، وتحريم نكاح المحلل لذلك وأيضا تحريم الاستمناء باليد.

( وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) أي حافظون لكل ما اؤتمنوا عليه موفون بكل عهودهم فإذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها وإذا عاهدوا أوفوا بذلك لا كصفات المنافقين الذي قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب و إذا وعد اخلف و إذا اؤتمن خان"رواه البخاري ومسلم.

( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) أي يواظبون عليها في مواقيتها كما قال ابن مسعود" سألت النبي صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي العمل احب إلى الله قال الصلاة على وقتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله "متفق عليه .

وقد افتتح الله هذه الصفات الحميدة بالصلاة

و اختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها.

ولما وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة و الأفعال الرشيدة قال

( أُولَئِكَ ) الموصوفون بتلك الصفات( هم الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة و أوسط الجنة و منه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن".

وعن أبي هريرة قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما منكم من أحد إلا و له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله(أولئك هم الوارثون)"رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

وفي صحيح مسلم عن أبي بُرده عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود و النصارى"وفي لفظ له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانيا فيقال هذا فكاكك من النار"

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ( 12 ) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ( 13 ) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( 14 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ( 15 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ( 16 ) .

ذكر الله في هذه الآيات أطوار الآدمي وتنقلاته، من ابتداء خلقه إلى آخر ما يصير إليه، فذكر ابتداء خلق أبي البشر آدم عليه السلام،(ولقد خلقنا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) أي استل آدم من الطين فإن آدم عليه السلام خلق من طين لازب وهو الصلصال من الحمأ المسنون وذلك مخلوق من التراب .

( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ ) أي: جنس الآدميين ( نُطْفَةً ) تخرج من ظهر الرجل وصدر المرأة، فتستقر ( فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) وهو الرحم، المعد لذلك .

( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ ) أي ثم صيرنا النطفة وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره وترائب المرأة وهي عظام صدرها ( عَلَقَةً ) أي: دما أحمر، بعد مضي أربعين يوما من النطفة، ( فخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ ) بعد أربعين يوما ( مُضْغَةً ) أي: قطعة لحم صغيرة، بقدر ما يمضغ من صغرها لا شكل فيها ولا تخطيط.

( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ ) اللينة ( عِظَامًا ) أي شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها ،

( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ) أي: جعلنا اللحم، كسوة للعظام، كما جعلنا العظام، عمادا للحم، وذلك في الأربعين الثالثة، ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب ،

فعن أبي عبدالرحمن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلماتٍ: بكَتْبِ رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيدٌ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))؛ رواه البخاري ومسلم.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا ، فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا ، قَالَ : أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى ، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ، فَمَا الرِّزْقُ ، فَمَا الْأَجَلُ ، فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ " رواه البخاري ومسلم .

فحين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفه من حال إلى حال وشكل إلى شكل حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السوي الكامل الخلق قال

( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ )

( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ) الخلق، ونفخ الروح ( لَمَيِّتُونَ ) بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) فتجازون بأعمالكم، حسنها وسيئها.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ( 17 ) .

لما ذكر تعالى خلق الإنسان عطف بذكر خلق السماوات السبع ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ ) سقفا للبلاد، ومصلحة للعباد ( سَبْعَ طَرَائِقَ ) أي: سبع سماوات طباقا، كل طبقة فوق الأخرى، ( وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) فكما أن خلْقنا عام لكل مخلوق، فعلمنا أيضا محيط بما خلقنا، فلا نغفل عن مخلوق ولا ننساه، ولا نخلق خلقا فنضيعه, ولا نغفل عن السماء فتقع على الأرض، ولا ننسى ذرة في لجج البحار ،

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ( 18 ) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 19 ) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ ( 20 ) .

( وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بقدر) يكون رزقا لكم ولأنعامكم بقدر ما يكفيكم، فلا ينقصه، بحيث لا يكفي الأرض والأشجار، فلا يحصل منه المقصود، ولا يزيده زيادة لا تحتمل، بحيث يتلف المساكن، ولا تعيش معه النباتات والأشجار، بل أنزله وقت الحاجة لنزوله ثم صرفه عند التضرر من دوامه، ( فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ ) أي: أنزلناه عليها، فسكن واستقر، وأخرج بقدرة منزله، جميع الأزواج النباتية، وأسكنه أيضا معدا في خزائن الأرض، بحيث لم يذهب نازلا حتى لا يوصل إليه، ولا يُبلغ قعره، ( وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ )أي لو شئنا ألا تمطر لفعلنا ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري والبحار والقفار ولو شئنا لجعلناه أجاجا لا ينتفع به لشرب ولا لسقيا ولو شئنا لجعلناه لا ينزل في الأرض بل ينجر على وجهها ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به

وهذا تنبيه منه لعباده أن يشكروه على نعمته، ويقدروا عدمها، وماذا يحصل به من الضرر.

( فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ ) أي: بذلك الماء ( جَنَّاتٍ ) أي: بساتين ( مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) خص تعالى هذين النوعين، مع أنه ينشئ منه غيرهما من الأشجار، لفضلهما ومنافعهما، التي فاقت بها الأشجار، ولهذا ذكر العام في قوله: ( لَكُمُ فيها ) أي: في تلك الجنات ( فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) من تين، ورمان، وتفاح وغيرها ، ( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ) وهي شجرة الزيتون، خصت بالذكر، لأن مكانها خاص في أرض الشام وطور سيناء هو طور سينين وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون ،ولمنافعها، التي ذكر بعضها في قوله: ( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ ) أي: فيها الزيت، الذي هو دهن، يستعمل استعماله من الاستصباح به، واصطباغ الآكلين، أي: يجعل إداما للآكلين، وغير ذلك من المنافع.

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ

( 21 ) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( 22 ) .

أي: ومن نعمه عليكم، أن سخر لكم الأنعام، الإبل والبقر، والغنم، فيها عبرة للمعتبرين، ومنافع للمنتفعين ( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا ) من لبن، يخرج من بين فرث ودم، خالص سائغ للشاربين،

( وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ ) من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ( وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) أفضل المآكل من لحم وشحم.

( وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) أي: جعلها سفنا لكم في البر، تحملون عليها أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، كما جعل لكم السفن في البحر تحملكم، وتحمل متاعكم، قليلا كان أو كثيرا، فالذي أنعم بهذه النعم،هو الذي يستحق كمال الشكر، وكمال الثناء، والاجتهاد في عبوديته، وأن لا يستعان بنعمه على معاصيه.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (27)فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) .

يذكر تعالى رسالة عبده ورسوله نوح عليه السلام، أول رسول أرسله لأهل الأرض، فأرسله إلى قومه، وهم يعبدون الأصنام، فأمرهم بعبادة الله وحده، فقال: ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) أي: أخلصوا له العبادة، لأن العبادة لا تصح إلا بإخلاصها.

( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) فيه إبطال ألوهية غير الله، وإثبات الإلهية لله تعالى، لأنه الخالق الرازق، الذي له الكمال كله، وغيره بخلاف ذلك. ( أَفَلا تَتَّقُونَ ) ما أنتم عليه من عبادة الأوثان والأصنام، التي صورت على صور قوم صالحين، فعبدوها مع الله، فاستمر على ذلك، يدعوهم سرا وجهارا، وليلا ونهارا، ألف سنة إلا خمسين عاما، وهم لا يزدادون إلا عتوا ونفورا.

"فَقَالَ الْمَلأُ الذين كفروا من قومه" الأشراف والسادة المتبوعون - على وجه المعارضة لنبيهم نوح، والتحذير من اتباعه - : مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي: ما هذا إلا بشر مثلكم، قصده حين ادعى النبوة أن يزيد عليكم فضيلة، ليكون متبوعا، وإلا فما الذي يفضله عليكم، وهو من جنسكم؟

"وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً " أي لو اراد أن يبعث نبيا لبعث ملك من عنده ولم يكن بشرا"مَا سَمِعْنَا بِهَذَا" أي ببعثة البشر فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ يعنون بهذا أسلافهم و أجدادهم و الأمم الماضية

إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي مجنون فَتَرَبَّصُوا بِهِ أي انتظروا به حَتَّى حِينٍ إلى أن يأتيه الموت فتستريحوا منه.

فلما رأى نوح أنه لا يفيدهم دعاؤه إلا فرارا قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فاستنصر ربه عليهم غضبا لله حيث ضيعوا أمره وكذبوا رسوله .

فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ عند استجابتنا له، سببا ووسيلة للنجاة، أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ أمره الله تعالى بصنع السفينة وإحكامها وإتقانها بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا أي: بأمرنا لك ومعونتنا، وأنت في حفظنا وكلاءتنا بحيث نراك ونسمعك.

فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا بإرسال الطوفان الذي عذبوا به وَفَارَ التَّنُّورُ أي: فارت الأرض، وتفجرت عيونا، حتى محل النار، الذي لم تجر العادة إلا ببعده عن الماء، فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي: أدخل في الفلك من كل جنس من الحيوانات، ذكرا وأنثى، لتبقى مادة النسل لسائر الحيوانات، التي اقتضت الحكمة الربانية إيجادها في الأرض، وَأَهْلَكَ أي: أدخلهم إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ منهم أي سبق فيه القول من الله من هلاك وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه و زوجته، وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إنهم مغرقون"عند معينة إنزال المطر العظيم لا تأخذنك رأفة بقومك وشفقة عليهم وطمع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر و الطغيان.

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ أي: علوتم عليها، واستقلت بكم في تيار الأمواج، ولجج اليم، فاحمدوا الله على النجاة والسلامة. فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ

الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، وهذا تعليم منه له ولمن معه، أن يقولوا هذا شكرا له وحمدا على نجاتهم من القوم الظالمين في عملهم .

وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي: وبقيت عليكم نعمة أخرى، فادعوا الله فيها، وهي أن ييسر الله لكم منزلا مباركا،.

إِنَّ فِي ذَلِكَ إن في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين "لأيات" أي لحجج ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله تعالى.

( وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ) أي لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ( 31 ) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 32 ) وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ( 33 ) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ( 34 ) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ( 35 ) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ( 36 ) إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( 37 ) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ( 38 ) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ( 39 ) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ( 40 ) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 41 ) .

لما ذكر نوحا وقومه، وكيف أهلكهم قال: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ) ثم أنشأنا من بعد قوم نوح جيلاً آخر وهم « ثمود » قوم صالح عليه السلام .

( فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ ) من جنسهم وهو صالح عليه السلام يعرفون نسبه وحسبه وصدقه، ليكون ذلك أسرع لانقيادهم، إذا كان منهم، وأبعد عن اشمئزازهم، فدعا إلى ما دعت إليه الرسل أممهم ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) فكلهم اتفقوا على هذه الدعوة، وهي أول دعوة يدعون بها أممهم، الأمر بعبادة الله، والإخبار أنه المستحق لذلك، والنهي عن عبادة ما سواه، والإخبار ببطلان ذلك وفساده، ولهذا قال: ( أَفَلا تَتَّقُونَ ) ربكم، فتجتنبوا هذه الأوثان والأصنام.

( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي: قال الرؤساء الذين جمعوا بين الكفر والمعاندة، وأطغاهم ترفهم في الحياة الدنيا، معارضة لنبيهم، وتكذيبا وتحذيرا منه: ( مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) أي: من جنسكم

( يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) فما الذي يفضله عليكم؟ فهلا كان ملكا لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب ، ( وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ) أي: إن تبعتموه وجعلتموه لكم رئيسا، وهو مثلكم إنكم لمسلوبو العقل، نادمون على ما فعلتم. وهذا من العجب، فإن الخسارة والندامة حقيقة لمن لم يتابعه ولم ينقد له. والجهل والسفه العظيم لمن تكبر عن الانقياد لبشر، خصه الله بوحيه، وفضله برسالته، .

فلما أنكروا رسالته وردوها، أنكروا ما جاء به من البعث بعد الموت، والمجازاة على الأعمال فقالوا:

( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ) أي بعيد بعيد ما يعدكم به من البعث بعد أن تمزقتم وكنتم ترابا وعظاما .

( إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا )أي يموت الأباء منا ويحيا الأبناء

( وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ )أي وما نحن بمخرجين أحياء مرة آخره.

"إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افترى على الله كذبا "أي فيما جاءكم به من الرسالة و النذارة و الإخبار بالمعاد "وما نحن له بمؤمنين "أي بمصدقين (قال رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ) أي استفتح عليهم الرسول واستنصر ربه عليهم فأجاب دعاءه ( قال عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) أي بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ ) لا بالظلم والجور بل بالعدل وبظلمهم أخذتهم الصيحة فأهلكتهم عن آخرهم .

» ( فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً ) أي صرعى كغثاء السيل وهو الشيء الحقير التافه الذي لا ينتفع بشيء منه .

( فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) أي بكفرهم و عنادهم

و مخالفة رسول الله.

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ ( 42 ) .

أي: ثم أنشأنا من بعد هؤلاء المكذبين المعاندين أمماً وخلائق.

مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ( 43 ) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ( 44 ) .

قال تعالى (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) أي يؤخذون حسب ما قدر لهم الله تعالى في كتابه المحفوظ جيلاً بعد جيل وخلفاً بعد سلف (ثم أرسلنا رسلنا تتري )، أي يتبع بعضهم بعضا، فلم يزل الكفر والتكذيب دأب الأمم العصاة، والكفرة البغاة، (كل ما جاء أمةُ رسولُها كذبوه)يعني أكثرهم ( فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا ) بالهلاك، ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) يتحدث بهم من بعدهم، ويكونون عبرة للمتقين، ونكالا للمكذبين، وخزيا عليهم مقرونا بعذابهم.

( فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) ما أشقاهم!!. وتعسا لهم، ما أخسر صفقتهم!!.

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 45 ) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ( 46 ) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ( 47 ) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ( 48 ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( 49 ) .

فقوله ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى ) بن عمران كليم الرحمن

( وَأَخَاهُ هَارُونَ ) حين سأل ربه أن يشركه في أمره فأجاب سؤله

( بِآيَاتِنَا ) الدالة على صدقهما وصحة ما جاءا به

( وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) أي حجة بينة ( إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) كـ « هامان » وغيره من رؤسائهم ( فَاسْتَكْبَرُوا ) أي تكبروا عن الإيمان بالله واستكبروا على أنبيائه

( وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ) أي وصفهم العلو والفساد في الأرض فلهذا صدر منهم الاستكبار و ذلك غير مستكثر منهم

( فَقَالُوا ) كبرا وتيها وتحذيرا لضعفاء العقول وتمويها ( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ) كما قاله من قبلهم سواء بسواء تشابهت قلوبهم في الكفر فتشابهت أقوالهم وأفعالهم

( وَقَوْمُهُمَا ) أي بنو إسرائيل ( لَنَا عَابِدُونَ ) أي معبدون بالأعمال والأشغال الشاقة

فكيف نكون تابعين بعد أن كنا متبوعين ؟ « وكيف يكون هؤلاء رؤساء علينا ؟ »

ولهذا قال ( فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ) في الغرق وبنو إسرائيل ينظرون

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب ) أنزل على موسى التوراة فيها أحكامه و أوامره و نواهيه ( لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) أي بمعرفة تفاصيل الأمر والنهي والثواب والعقاب ويعرفون ربهم بأسمائه وصفاته

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( 50 ) .

أي: وامتننا على عيسى ابن مريم، وجعلناه وأمه من آيات الله العجيبة، حيث حملته وولدته من غير أب، وتكلم في المهد صبيا، وأجرى الله على يديه من الآيات ما أجرى، ( وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ) أي: مكان مرتفع، ( ذَاتِ قَرَارٍ ) أي: مستقر وراحة ( وَمَعِينٍ ) أي: ماء جار وهو النهر،

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 51 ) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ( 52 ) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( 53 ) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ( 54 ) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ( 55 ) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ

( 56 ) .

يقول تعالى"يا أيها الرسل كلوا من الطيبات و اعملوا صالحا إني بما تعملون عليم"

هذا أمر منه تعالى لرسله بأكل الطيبات، التي هي الرزق الطيب الحلال، وشكر الله، بالعمل الصالح، الذي به يصلح القلب والبدن، والدنيا والآخرة. ويخبرهم أنه بما يعملون عليم.

وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله يأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال(يا أيها الرسل كلوا من الطيبات و اعملوا صالحا إني بما تعملون عليم)وقال (يا أيها الذين ءآمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم)البقرة:172 ، ثم ذكر رجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء يارب يارب فأنى يستجاب لذلك"أي يستبعد إجابة دعائه.

وقوله: ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً)أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد و ملة واحدة وهو الدعوة لعبادة الله وحده لا شريك له ، ولهذا قال .

( وانا ربكم فَاتَّقُونِ ) بامتثال أوامري، واجتناب زواجري. فالواجب على كل المنتسبين إلى الأنبياء ، أن يمتثلوا هذا، ويعملوا به، ولكن أبى الظالمون المفترقون إلا عصيانا، ولهذا قال: ( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ) أي تفرق الأمم الذين بعث إليهم الأنبياء إلى أحزاب و شيع( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون ولهذا قال متهدداً لهم و متواعداً

( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ ) أي: في جهلهم بالحق، ودعواهم أنهم المحقون. ( حَتَّى حِينٍ ) أي: إلى أن ينزل العذاب بهم، فإنهم لا ينفع فيهم وعظ، ولا يفيدهم زجر، وكيف يفيد من يزعم أنه على الحق، ويطمع في دعوة غيره إلى ما هو عليه؟.

( أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ) أي: أيظنون أن زيادتنا إياهم بالأموال والأولاد، دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة، و ليس الأمر كذلك فقد أخطئوا في ذلك و خاب رجاؤهم بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجاً و إنظاراً و إملاء ولهذا قال ( بَل لا يَشْعُرُونَ )

إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ( 57 ) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( 58 ) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ( 59 ) .

لما ذكر تعالى الذين جمعوا بين الإساءة والأمن، الذين يزعمون أن عطاء الله إياهم في الدنيا دليل على خيرهم وفضلهم، ذكر الذين جمعوا بين الإحسان والخوف، فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) أي: وجلون فهم مع إحسانهم و إيمانهم و عملهم الصالح مشفقون من الله خائفون منه لأن المؤمن جمع إحساناً و شفقة و الكافر جمع إساءة و أمنا.

( وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ )أي يؤمنون بآياته الكونيه والشرعية.

( وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ) أي: لا شركا جليا، كاتخاذ غير الله معبودا، يدعوه ويرجوه ولا شركا خفيا، كالرياء ونحوه، بل هم مخلصون لله، في أقوالهم وأعمالهم وسائر أحوالهم.

وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءآتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ( 60 ) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ( 61 ) وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 62 ) .

يقول تعالى ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءآتَوْا و قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) أي يعطون العطاء وهم خائفون ألا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط العطاء وهذا من باب الإشفاق كما روى الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت :"يا رسول الله ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءآتَوْا و قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) هو الذي يسرق و يزني ويشرب الخمر و يخاف الله عز وجل قال لا يا بنت أبي بكر الصديق ولكنه الذي يصلي و يصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل ".حسنه الألباني

( أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة إليه، انتهزوه وبادروه، قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه، أمامهم،يمنة، ويسرة، يسارعون في كل خير، وينافسون في الزلفى عند ربهم، فنافسوهم. ولما كان السابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره، أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال:

( وَهُمْ لَهَا ) أي: للخيرات ( سَابِقُونَ ) قد بلغوا ذروتها، وتباروا والرعيل الأول، ومع هذا، قد سبقت لهم من الله سابقة السعادة، أنهم سابقون.

ولما ذكر مسارعتهم إلى الخيرات وسبقهم إليها، ربما وهم واهم أن المطلوب أمر غير مقدور ، فقال تعالى (ولا يكلف نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) أي إلا ما تطيق حمله والقيام به وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء ولهذا قال ( وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ ) وهو كتاب الأعمال، ( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) أي لا يبخسون من الخير شيئا

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ( 63 ) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْئرُونَ ( 64 ) لا تَجْئرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ ( 65 ) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ( 66 ) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ( 67 ) .

ثم قال منكراً على الكفار و المشركين من قريش(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ)أي غفلة و ضلالة(مِنْ هَذَا)أي القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم

تمنعهم من الوصول إليه، فلا يهتدون به، ولا يصل إلى قلوبهم منه شيء. فعملوا من الأعمال الكفرية ما هو موجب لعقابهم ( ولَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ )أي قد كتب عليهم اعمال سيئة لابد أن يعملوها قبل موتهم لا محاله لتحق عليهم كلمة العذاب .

( حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ ) أي متنعميهم الذين ما اعتادوا إلا الترف والرفاهية والنعيم ولم تحصل لهم المكاره فإذا أخذناهم ( بِالْعَذَابِ ) ووجدوا مسه ( إِذَا هُمْ يَجْئرُونَ ) يصرخون ويتوجعون لأنه أصابهم أمر خالف ما هم عليه ويستغيثون فيقال لهم ( لا تَجْئرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ )أي لا يجيركم أحد مما حل بكم سواء صرختم أم سكتم لا محيد ولا مناص لزم الأمر و وجب العذاب

ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال( قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ) لتؤمنوا بها وتقبلوا عليها فلم تفعلوا ذلك ( فكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ) أي راجعين القهقرى إلى الخلف وذلك لأن باتباعهم القرآن يتقدمون وبالإعراض عنه يستأخرون وينزلون إلى أسفل سافلين( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ )مستكبرين على الناس بغير الحق بسبب بيت الله الحرام تقولون نحن أهله لا نغلب فيه وتتسامروا حوله بالسيء من القول

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)

قوله (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ) إنكار من الله تعالى على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن الكريم وعدم

تدبرهم له و إعراضهم عنه ، مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل ولا أشرف منه صلى الله عليه وسلم .

(أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ) أم منعهم من الإيمان أنه جاءهم رسول وكتاب لم يأت أبائهم الأولين .

وقوله: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)أي أومنعهم من اتباع الحق أن رسولهم محمدا صلى الله عليه وسلم غير معروف عندهم فهم منكرون له

(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون فلهذا قال ما قال والمجنون غير مسموع منه ولا عبرة بكلامه لأنه يهذي بالباطل والكلام السخيف

قال الله في الرد عليهم في هذه المقالة (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ) أي بالأمر الثابت الذي هو صدق وعدل لا اختلاف فيه ولا تناقض (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) و أكثرهم كارهون الحق حسداً و بغيا(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ)لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى وشرع الأمور على وفق ذلك( لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ومن فيهن)لفساد أهوائهم واختلافها(بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي بهذا القرآن المذكر لهم بكل خير الذي به فخرهم وشرفهم حين يقومون به ويكونون به سادة الناس

(فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ )شقاوة منهم وعدم توفيق

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ( 74 ) .

يقول تعالى (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا)أي أجرا ،(فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ)أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلا ولا شيئا على دعوتك إياهم إلى الهدى بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه،(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)فلا يقدر أحد أن يرزق مثل رزقه سبحانه وتعالى.

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)وإن الذي تدعوهم إليه صراط مستقيم، سهل على العاملين لاستقامته، موصل إلى المقصود، من قرب حنيفية في التوحيد سمحة في العمل، فدعوتك إياهم إلى الصراط المستقيم، موجب لمن يريد الحق أن يتبعك، لأنه مما تشهد العقول والفطر بحسنه، وموافقته للمصالح، ( وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ) متجنبون منحرفون، عن الطريق الموصل إلى الله، وإلى دار كرامته، ليس في أيديهم إلا ضلالات وجهالات.

وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 75 ) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ( 76 ) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ( 77 ) .

يقول تعالى(وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو اراح عللهم و أفهمهم القرآن لما انقادوا له ولا ستمروا على كفرهم و عنادهم و طغيانهم .

( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ ) و لقد ابتليناهم بصنوف المصائب ( فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ ) أي:ما خضعوا لربهم وذلوا ( وَمَا يَتَضَرَّعُونَ )وما دعوه خاشعين عند نزولها ( حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ ) أي حتى إذا جاءهم امر الله وجاءتهم الساعة بغتة وأخذهم من عقاب الله ما لم يكونوا يحتسبون ( إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) آيسون من كل راحة

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ( 78 ) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 79 ) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 80 ) .

يخبر تعالى عن مننه على عباده الداعية لهم إلى شكره، والقيام بحقه فقال: ( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ ) لتدركوا به المسموعات، فتنتفعوا في دينكم ودنياكم، ( وَالأبْصَارَ ) لتدركوا بها المبصرات، فتنتفعوا بها في مصالحكم.

( وَالأفْئِدَةَ ) أي: العقول التي تدركون بها الأشياء، وتتميزون بها عن البهائم، فلو عدمتم السمع، والأبصار، والعقول، بأن كنتم صما عميا بكما ماذا تكون حالكم؟ وماذا تفقدون من ضرورياتكم وكمالكم؟ أفلا تشكرون الذي من عليكم بهذه النعم، فتقومون بتوحيده وطاعته؟. ولكنكم، قليل شكركم، مع توالي النعم عليكم.

( وَهُوَ ) تعالى ( الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ ) أي: بثكم في أقطارها، وجهاتها، وجعلها كافية لمعايشكم ومساكنكم، ( وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) بعد موتكم، فيجازيكم بما عملتم في الأرض، من خير وشر،

( وَهُوَ ) تعالى وحده ( الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) أي يحيي الرمم و يميت الأمم. ( وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) أي: تعاقبهما وتناوبهما بأمر الله تعالى .

ولهذا قال هنا: ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) قدرته و وحدانيته.

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ ( 81 ) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( 82 ) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 83 ) .

أي: بل سلك هؤلاء المكذبون مسلك الأولين من المكذبين بالبعث، واستبعدوه غاية الاستبعاد وقالوا: ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) أي: هذا لا يتصور، ولا يدخل العقل، بزعمهم.

( لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ ) أي: ما زلنا نوعد بأن البعث كائن، نحن وآباؤنا، ولم نره، فيعنون أن الإعادة محالة ( إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ )أي: قصصهم وأسمارهم، التي يتحدث بها

قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 84 ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 85 ) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( 86 ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 87 ) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 88 ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ( 89 ) .

قل لهؤلاء المكذبين بالبعث، العادلين بالله غيره، محتجا عليهم بما أثبتوه، وأقروا به، من توحيد الربوبية، وانفراد الله بها، على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، وبما أثبتوه من خلق المخلوقات العظيمة، على ما أنكروه من إعادة الموتى، الذي هو أسهل من ذلك.

( لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا ) أي: من هو الخالق للأرض ومن عليها، من حيوان، ونبات وجماد وبحار وأنهار وجبال،(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فإنك إذا سألتهم عن ذلك( سيقولون لله) (قل) لهم إذا أقروا بذلك: ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أي: أفلا ترجعون إلى ما ذكركم الله به، مما هو معلوم عندكم، مستقر في فطركم، قد يغيبه الإعراض في بعض الأوقات. والحقيقة أنكم إن رجعتم إلى ذاكرتكم, بمجرد التأمل، علمتم أن مالك ذلك، هو المعبود وحده، وأن إلهية من هو مملوك أبطل الباطل ثم انتقل إلى ما هو أعظم من ذلك، فقال: ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ)أي من هو خالق العالم العلوي(وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها، فمن الذي خلق ذلك ودبره، وصرفه بأنواع التدبير؟

( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) أي: سيقرون بأن الله رب ذلك كله. (قل) لهم حين يقرون بذلك: ( أَفَلا تَتَّقُونَ ) أي إذا كنتم تعترفون بأنه رب السماوات و رب العرش العظيم أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به .

ثم انتقل إلى إقرارهم بما هو أعم من ذلك كله فقال: ( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) أي: ملك كل شيء، من العالم العلوي، والعالم السفلي، ما نبصره، وما لا نبصره؟. و « الملكوت » صيغة مبالغة بمعنى الملك. ( وَهُوَ يُجِيرُ ) عباده من الشر، ويدفع عنهم المكاره، ويحفظهم مما يضرهم، ( وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ ) أي: لا يقدر أحد أن يجير على الله. ولا يدفع الشر الذي قدره الله. بل ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ،

( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) أي: سيقرون أن الله المالك لكل شيء، المجير، الذي لا يجار عليه.

( قُلْ ) لهم حين يقرون بذلك، ملزما لهم، ( فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) أي: فأين تذهب عقولكم، حيث عبدتم من علمتم أنهم لا ملك لهم، ولا قسط من الملك، وأنهم عاجزون من جميع الوجوه.

بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 90 ) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 91 ) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 92 ) .

يقول تعالى: (بل أتيناهم بالحق)وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله واقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك ( وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ )في عبادتهم مع الله غيره ولا دليل لهم على ذلك.

( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ) ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك ولهذا نبه تعالى على الدليل العقلي، على امتناع إلهين فقال: ( إِذًا ) أي: لو كان معه آلهة كما يقولون ( لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ) أي: لانفرد كل واحد من الإلهين بمخلوقاته, واستقل بها، ( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ )ولحرص على ممانعة الآخر ومغالبته، «

» ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) أي عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك : ( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )أي يعلم ما يغيب عن المخلوقات و ما يشاهدونه ( فَتَعَالَى ) أي: ارتفع وعظم، ( عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أي تقدس وتنزه وتعالى عما يقول الظالمون و الجاحدون .

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ( 93 ) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 94 ) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ( 95 ) .

يقول تعالى أمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو بهذا الدعاء عند حلول النقم ( قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ) أي إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذلك

( رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) أي لا تجعلني فيهم ( وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ) و إننا لقادرون على أن نريك ما نعدهم من العذاب.

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ( 96 ) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ( 97 ) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ( 98 ) .

هذا من مكارم الأخلاق، التي أمر الله رسوله بها فقال: ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) أي: إذا أساء إليك أعداؤك أيها الرسول، بالقول أوالفعل، فلا تقابلهم بالإساءة، ولكن ادفع إساءتهم إليك بالإحسان منك إليهم.

وقوله ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ) أي بما يقولون من الأقوال المتضمنة للكفر والتكذيب بالحق( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ * مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وقل أيها النبي رب استجير بك من إغواء الشياطين المغرية على الباطل و الفساد و الصد عن الحق

( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ )أي استجير بك يا رب من حضورهم في شيء من أموري ولهذا أمر بذكر الله في ابتدء الأمور وذلك لطرد الشيطان عند الأكل و الشرب و الجماع و الذبح وغير ذلك من الأمور ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول"اللهم إني أعوذ بك من الهدم وأعوذ بك من التردي وأعوذ بك من الغرق والحرق والهرم وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت" صححه الألباني

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) .

يخبر الله تعالى عن حال المحتضر من الكافرين أو المفرطين في أمره تعالى أنه إذا أشرف على الموت و شاهد ما اعد له من العذاب قال رب ردوني إلى الدنيا( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ) من العمل، وفرطت في جنب الله. ( كَلا ) أي: لا رجعة له ولا إمهال، قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون، ( إِنَّهَا ) أي: مقالته التي تمنى فيها الرجوع إلى الدنيا ( كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) أي: مجرد قول باللسان، لا يعود على صاحبه إلا بالحسرة والندم، وهو أيضا غير صادق في ذلك، فإنه لو رد لعاد لما نهي عنه.( وَمِنْ وَرَائِهِمْ)أي أمامهم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ سيبقى المتوفون في الحاجز من الزمن الذي بين الدنيا و الآخرة إلى يوم البعث

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ( 101 ) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 102 ) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ( 103 ) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ( 104 )

يقول تعالى:(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) يخبر تعالى أنه إذا نفخ الملك إسرافيل في القرن نفخة النشور وقام الناس من القبور (فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ )أي لا تنفع الأنساب يومئذ ولا يرثى والد لولده و لايأوى إليه (وَلا يَتَسَاءَلُونَ)أي لا يسأل أحد أحداً.

وفي القيامة مواضع، يشتد كربها، ويعظم وقعها، كالميزان الذي يميز به أعمال العبد، وينظر فيه بالعدل ما له وما عليه، وتبين فيه مثاقيل الذر، من الخير والشر، ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) بأن رجحت حسناته على سيئاته ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )الذين فازوا بما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ بأن رجحت سيئاته على حسناته فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ خابوا وهلكوا فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ماكثون دائمون تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي:تحرق وجوههم، وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ قد عبست وجوههم، وقلصت شفاههم، من شدة ما هم فيه، وعظيم ما يلقونه .

أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ( 105 ) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ( 106 ) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ( 107 ) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ( 108 ) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ( 109 ) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ( 110 ) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ( 111 ) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ( 112 ) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ( 113 ) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 114 ) .

فيقال لهم - توبيخا ولوما - : ( أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ) أي قد أرسلت إليكم الرسل و آنزلت عليكم الكتب ( فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) ظلما منكم وعنادا، وهي آيات بينات، دالات على الحق ( قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) أي: غلبت علينا الشقاوة الناشئة عن الظلم والإعراض عن الحق، والإقبال على ما يضر، وترك ما ينفع، ( وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ) أي قد قامت علينا الحجة ولكن كنا اشقى من أن ننقاد لها أو نتبعها ثم قالوا . ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ )أي ردنا إلى دار الدنيا فإن عدنا إلى ما سلف منا فنحن ظالمون مستحقون للعقوبه قال الله جوابا لسؤالهم: ( اخْسَئُوا فِيهَا )أي امكثوا فيها صاغرين مهانين أذلاء (وَلا تُكَلِّمُونِ )أي لا تعودوا إلى سؤالكم هذا فإنه لا جواب لكم عندي،ثم قال تعالى مذكراً لهم بذنوبهم في الدنيا و ما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) فجمعوا بين الإيمان المقتضي لأعماله الصالحة، والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة، والتوسل إليه بربوبيته، ومنته عليهم بالإيمان، والإخبار بسعة رحمته، وعموم إحسانه، وفي ضمنه، ما يدل على خضوعهم وخشوعهم، وانكسارهم لربهم، وخوفهم ورجائهم.فهؤلاء سادات الناس وفضلائهم، ( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ) أي فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي ( حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي)فاشتغلتم بالاستهزاء بهم حتى نسيتم ذكري(وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) سخرية واستهزاء(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا) على طاعتي، وعلى أذاكم لهم واستهزائهم بكم. ( أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ) بالنعيم المقيم، والنجاة من الجحيم،( قَالَ ) لهم على وجه اللوم، ( كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ )كم كانت إقامتكم في الدنيا ( قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) كلامهم هذا مبني على استقصارهم لمدة مكثهم في الدنيا فلهذا قالوا ( فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ) أي الضابطين لعدده وأما هم ففي شغل شاغل عن معرفة عدده (قال) لهم ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا ) أي مدة يسيرة على كل تقدير ( لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )لو أنكم صبرتم على طاعة الله و عبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا.

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ( 115 ) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ( 116 ) .

يقول تعالى: ( أَفَحَسِبْتُمْ ) افظننتم ( أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ) أي: سدى وباطلا تأكلون وتشربون وتمرحون، وتتمتعون بلذات الدنيا، ونترككم لا نأمركم، ولا ننهاكم ولا نثيبكم، ولا نعاقبكم؟ ( وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) أي لا تعودون إلى الدار الآخرة ، ( فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ) أي تقدس أن يخلق شيئاً عبثا فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) العرش سقف جميع المخلوقات و وصفه بأنه كريم أي حسن المنظر بهي الشكل.

وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( 117 ) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ( 118 ) .

يقول تعالى (ومن يدع مع الله إلها آخر)ومن يعبد مع الله الواحد إله آخر (لا برهان له به) لا حجة له على ذلك (فإنما حسابه عند ربه)فإنما جزاؤه على عمله السيء عند ربه في الآخرة ( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) أي لا فلاح ولا نجاة للكافرين يوم القيامة.

وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ"هذا إرشاد من الله تعالى إلى هذا الدعاء فالغَفر إذا أطلق معناه محو الذنب وستره عن الناس

و الرحمة معناها أن يسدده و يوفقه في الأقوال و الأفعال"

تم تفسير سورة المؤمنون ، ولله الحمد والمنَّة

1440-6-19هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر