تفسير سورة الفرقان

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 5 محرم 1440هـ | عدد الزيارات: 1711 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد؛

سورة الفرقان مكية وآياتها 77 آية

بسم الله الرحمن الرحيم

"تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ( 1 ) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا " ( 2 )

قوله تعالى : تَبَارَكَ تفاعَلَ من البركة المستقرة الدائمة الثابتة الَّذِي نـزلَ الْفُرْقَانَ نـزَّل:فَعَّلَ، من التكرر، والتكثر، لأن الكتب المتقدمة كانت تنـزل جملة واحدة، والقرآن نـزل مُنَجَّماً مُفَرَّقاً مُفَصَّلا آيات بعد آيات، وأحكاما بعد أحكام، وسوراً بعد سُوَر، وهذا أشد وأبلغ، وأشد اعتناءً بمن أنـزل عليه ولهذا سماه الفرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام.

قوله: عَلَى عَبْدِهِ :هذه صفة مدح وثناء؛ لأنه أضافه إلى عبوديته، وكذلك وصفه عند إنـزال الكتاب عليه ونـزول الملك إليه، فقال تَبَارَكَ الَّذِي نـزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا

قوله: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا أي:إنما خصَّه بهذا الكتاب العظيم المبين المفصل المحكم الذي جعله فرقانا عظيما - إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء، ويستقل على الغبراء، كما قال - صلوات الله وسلامه عليه « أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي » رواه البخاري ومسلم ، فذكر منهن : أنه

« كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة » ، وهكذا قال : الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، فَنـزه نفسه عن الولد، وعن الشريك.ثم أخبر أنه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا أي:كل شيء مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره وتسخيره، وتدبيره وتقديره

" وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا "( 3 )

يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، الخالق لكل شيء، المالك لأزمَّة الأمور، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ومع هذا عَبَدُوا معه من الأصنام ما لا يقدر على خلق جناح بعوضة، بل هم مخلوقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فكيف يملكون لعابديهم؟ وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا أي:ليس لهم من ذلك شيء، بل ذلك مرجعه كله إلى الله عز وجل، الذي هو يحيي ويميت، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، ولا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهو الذي لا ولد له ولا والد، ولا عديل ولا نديد ولا وزير ولا نظير، بل هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.

" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ( 4 ) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا ( 5 ) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا "( 6 )

يقول تعالى مخبرًا عن سخافة عقول الجهلة من الكفار، في قولهم عن القرآن: إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ :أي:كذب ، افْتَرَاهُ يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ أي:واستعان على جمعه بقوم آخرين. قال الله تعالى: فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًأي:فقد افتروا هم قولا باطلا هم يعلمون أنه باطل، ويعرفون كذب أنفسهم فيما يزعمون .وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا يعنون:كتب الأوائل استنسخها ، فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ أي:تقرأ عليه بُكْرَةً وَأَصِيلا أي:في أول النهار وآخره.وهذا الكلام - لسخافته وكذبه وبهْته منهم - كُلّ أحد يعلم بطلانه، فإنه قد عُلم بالتواتر وبالضرورة:أن محمداً رسول الله لم يكن يعاني شيئا من الكتابة، لا في أول عمره ولا في آخره، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة، وهم يعرفون مدخله ومخرجه، وصدقه، وبره وأمانته ونـزاهته من الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة، حتى إنهم لم يكونوا يسمونه في صغره إلى أن بُعِث إلا الأمين، لما يعلمون من صدقه وبره. فلما أكرمه الله بما أكرمه به، نصبوا له العداوة، وَرَموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها، وحاروا ماذا يقذفونه به، فتارة من إفكهم يقولون: ساحر،وتارة يقولون: شاعر،وتارة يقولون:مجنون، وتارة يقولون: كذاب،وقال تعالى في جواب ما عاندو وافتروا: قُلْ أَنـزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أي:أنـزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين إخباراً حقاً صدقاً مطابقاً للواقع في الخارج، ماضيا ومستقبلا أَنـزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أي:الله الذي يعلم غيب السماواتوالأرض.ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر.وقوله: إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا:دعاء لهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، وأن من تاب إليه تاب عليه. فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتهم وكفرهم وعنادهم، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا، يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى، قال الحسن البصري:انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة سبحانه وتعالى .

"وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا " (11)

يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم، وإنما تعللوا بقولهم: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ، يعنون:كما نأكله، ويحتاج إليه كما نحتاج إليه، وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ أي:يتردد فيها وإليها طلبا للتكسب والتجارة، لَوْلا أُنـزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا يقولون :هلا أنـزل إليه ملك من عند الله، فيكون له شاهدا على صِدْق ما يدَّعيه! وكذلك قال هؤلاء على السواء، تشابهت قلوبهم؛ ولهذا قال: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنـز أي يهبط عليه من السماء كنز من مال ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا فيستغني بذلك عن المشي في الاسواق وطلب الرزق وَقَالَ الظَّالِمُونَ حملهم على القول ظلمهم لا اشتباه منهم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا وقال هؤلاء الظالمون المكذبون ما تتبعون أيها المؤمنون إلا رجل به سحر غلب على عقله قالوا هذا وهم يعلمون كمال عقله وحسن حديثه وسلامته من جميع المطاعن ولما كانت هذه الاقوال منهم عجيبة جدا .

قال الله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ أي:جاءوا بما يقذفونك به ويكذبون به عليك، من قولهم « ساحر، مسحور، مجنون، كذاب، شاعر » وكلها أقوال باطلة، كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك؛ ولهذا قال: فضلوا أي:عن طريق الهدى ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا وذلك لأن كل من خرج عن الحق فإنه ضال حيثما توجه؛ لأن الحق واحد ومنهج متحد، يُصَدّق بعضه بعضا.ثم قال تعالى مخبراً نبيه أنه لو شاء لآتاه خيراً مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن، فقال تعالى تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا مرتفعة مزخرفة فقدرته ومشيئته لا تقصر عن ذلك ولكنه تعالى لما كانت الدنيا عنده في غاية البغض والحقارة اعطى منها أولياءه ورسله ما اقتضته حكمته منها .

وروى البخاري عن حبيب بن أبي ثابت قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك، ولا يُعطى من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله؟ فقال:اجمعوها لي في الآخرة، فأنـزل الله عز وجل في ذلك: " تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا " .

وقوله:بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِأي:إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيباً وعناداً، لا أنهم يطلبون ذلك تبصراواسترشادا، بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال، وأعتدنا أي:وأرصدنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا أي:عذابا أليماً حاراً لا يطاق في نار جهنم.

" إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ( 12 ) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ( 13 ) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا " ( 14 ) .

وقوله:إِذَا رَأَتْهُمْ أي:جهنم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ أي: قبل وصولهم ووصولها إليهم. سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا عليهم وَزَفِيرًا تقلق منه الافئده وتتصدع القلوب .وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ أي وقت عذابهم وهم في وسطها بين ضيق المكان وتزاحم السكان وتقرينهم بالسلاسل والأغلال فإذا وصلوا لذلك المكان النحس وحبسوا في أشر حبس دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا أي:بالويل والحسرة والخيبة . لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا أي لو زاد ما قلتم اضعاف اضعافه ما افادكم إلا الهم والغم والحزنلما بين جزاء الظالمين ناسب أن يذكر جزاء المتقين فقال

" قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا "(16)

أي قل لهم مبيناً لسفاهة رأيهم واختيارهم الضار على النافع أذلك الذي وصفت لكم من العذاب خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون التي زادها تقوى الله فمن قام بالتقوى فالله قد وعده إياها كانت لهم جزاء على تقواهم ومصيرا موئلا يرجعون إليها ويستقرون فيها ويخلدون دائما ابدا .

لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ أي ما يطلبون وتتعلق به أمانيهم من المطاعم والمشارب اللذيذة والملابس الفاخرة والنساء الجميلات والقصور والجنات والحدائق والفواكه وغير ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَر على قلب بشر . وهم في ذلك خالدون أبدا دائما سرمدا بلا انقطاع ، ولا انقضاء. وهذا من وَعْد الله الذي تفضل به عليهم، وأحسن به إليهم، ولهذا قال: كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا أي لا بد أن يقع وأن يكون مَسْئُولا يسأله إياها عباده المتقون

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا(18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) .

يقول تعالى مخبراً عما يَقَع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم مَن عبدوا من دون الله، من الملائكة وعزير وعيسى وغيرهم، فقال: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ أي المكذبين المشركين وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي:فيقول الرب تبارك وتعالى للمعبودين أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني، أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم، من غير دعوة منكم لهم؟ ولهذا قال تعالى مخبرًا عما يُجيِب به المعبودون يوم القيامة: قَالُوا سُبْحَانَكَ نزهوا الله عن شرك المشركين به وبرؤوا انفسهم من ذلك مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أي لا يليق بنا ولا يحسن منا أن نتخذ من دونك من أولياء نتولاهم ونعبدهم وندعوهم فإذا كنا محتاجين ومفتقرين إلى عبادتك ومتبرئين من عبادة غيرك فكيف نأمر أحداً بعبادتنا سبحانك عن أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ في لذات الدنيا وشهواتها حتى نَسُوا الذكر اشتغالاً في لذات الدنيا واكباباً على شهواتها فحافظوا على دنياهم وضيعوا دينهم .وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا أي بائرين لا خير فيهم فلما تبرؤوا منهم قال الله توبيخاً وتقريعاً للعابدينفَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ أي:فقد كذبكم الذين عَبَدْتُم فيما زعمتم أنهم لكم أولياء، وأنكم اتخذتموهم قربانا يقربونكم إليه زلفى .وقوله: فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا أي:لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم، وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أي:يشرك بالله، نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا لا يقادر قدره ولا يبلغ أمره .

"وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا" (20 )

يقول تعالى مخبرا عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين:إنهم كانوا يأكلون الطعام، ويحتاجون إلى التغذي به وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ أي:للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم؛ فإن الله جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، والأدلة القاهرة ، ما يستدل به كل ذي لب سليم، وبصيرة مستقيمة، على صدق ما جاءوا به من الله تعالى

وقوله: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ أي:اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض، لنعلم مَن يُطيع ومن يعصي؛ ولهذا قال: أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا أي:بمن يستحق أن يوحى إليه، ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به، ومن لا يستحق ذلك.

وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا (24) .

يقول تعالى مخبرا عن تَعَنُّت الكفار في كفرهم، وعنادهم في قولهم: لَوْلا أُنـزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي:هلا نزلت الملائكة تشهد لك بالرسالة وتؤيدك عليها ، أَوْ نَرَى رَبَّنَا فيكلمنا ويقول هذا رسولي فاتبعوه وهذه معارضة للرسول بما ليس بمعارض بل بالتكبر والعلو والعتو لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حيث اقترحوا هذا الاقتراح وتجرأوا هذه الجرأة فمن انتم يا مساكين حتى تطلبوا رؤية الله وتزعموا ان الرسالة متوقف ثبوتها على ذلك وأي كبرً اعظم من هذا وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا أي قسوا عن الحق قساوة عظيمة فقلوبهم أشد من الاحجار واصلب من الحديد لا تلين للحق ولا تصغي للناصحين فلذلك لم ينجع فيهم وعظ ولا تذكير ولا اتبعوا الحق حين جاءهم نذير ولذلك بطلت أعمالهم وخسروا أشد الخسران وحرموا غاية الحرمان .

وقوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ التي اقترحوا نزولها لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وذلك أنهم لا يرونها مع استمرارهم على جرمهم وعنادهم إلا لعقوبتهم وحلول البأس بهم فأول ذلك عند الموت إذا تنزلت عليهم الملائكة

وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا أي:وتقول الملائكة للكافرين حَرَام محرم عليكم الفلاح اليوم.

وأصل « الحِجر » :المنع، ومنه يقال:حَجَر القاضي على فلان، إذا منعه التصرف إما لسفَه، أو فَلَس، أو صغر، أو نحو ذلك.

وقوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ما عملوه من مظاهر الخير والبر فجعلناه مضمحلاً لا ينفعهم وذلك أن العمل لا ينفع في الآخرة إلا إذا توفر في صاحبه الإخلاص لله والمتابعة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا وهو ما يرى في ضوء الشمس من خفيف الغبار وذلك يوم القيامة .

وقوله: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الذين امنوا بالله وعملوا صالحاً واتقوا ربهم يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا من أهل النار وَأَحْسَنُ مَقِيلا أي مستقراً في الجنة وهو المستقر النافع والراحة التامة لاشتمال ذلك على تمام النعيم الذي لا يشوبه كدر .

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا (29) .

يخبر تعالى عن هَول يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظيمة، فمنها انشقاق السماء وتفطرها وانفراجها بالغمام، وهو ظُلَل النور العظيم الذي يبهر الأبصار، ونـزول ملائكة السموات يومئذ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر. ثم يجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء.

وقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ الملك الحق في هذا اليوم للرحمن وحده دون من سواه وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا وكان هذا صعباً شديداً على الكافرين لما يناله من العقاب والعذاب الأليم ،وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض"

وقوله: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا :يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول وما جاء به من عند الله من الحق المبين، الذي لا مرْية فيه، وسلك طريقا أخرى غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة نَدمَ حيثُ لا ينفعه النَدَمُ، وعضّ على يديه حسرةً وأسفا.

ويَعَض على يديه قائلا يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا يعني:مَن صرفه عن الهدى، وعدل به إلى طريق الضلالة من دعاة الضلالة .

لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ وهو القرآن بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي أي:بعد بلوغه إلي، قال الله تعالى: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا أي:يخذله عن الحق، ويصرفه عنه، ويستعمله في الباطل، ويدعوه إليه.

"وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا "(30) "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا(31)

يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد - صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين - أنه قال: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ، وذلك أن المشركين كانوا لا يُصغُون للقرآن ولا يسمعونه ، وكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه، وترك علمه وحفظه أيضا من هجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدولُ عنه إلى غيره - من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره - من هجرانه، فنسأل الله الكريمَ المنانَ القادرَ على ما يشاء، أن يخلّصنا مما يُسْخطه، ويستعملنا فيما يرضيه، من حفظ كتابه وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطرافَ النهار، على الوجه الذي يحبه ويرضاه، إنه كريم وهاب.

وقوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي:كما حصل لك - يا محمد - في قومك من الذين هجروا القرآن، كذلك كان في الأمم الماضين؛ لأن الله جعل لكل نبي عدوا من المجرمين، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا أي:لمن اتبع رسوله، وآمن بكتابه وصدقه واتبعه، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة. وإنما قال: هَادِيًا وَنَصِيرًا لأن المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن، لئلا يهتدي أحد به، ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن؛ فلهذا قال: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا .

"وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا " (32)

يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم، وكلامهم فيما لا يعنيهم، حيث قالوا: لَوْلا نـزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً أي:هلا أنـزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة، كما نـزلت الكتب قبله، كالتوراة والإنجيل والزبور، وغيرها من الكتب الإلهية. فأجابهم الله عن ذلك بأنه إنما أنـزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث، وما يحتاج إليه من الأحكام لتثبيت قلوب المؤمنين به ولهذا قال: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن إزداد طمأنينة وثباتاً وخصوصاً عن ورود اسباب القلق فإن نزول القرآن عند حدوث السبب يكون له موضع عظيم وتثبيت كبير أبلغ مما كان نازلا قبل ذلك ثم تذكرة عند حلول سببه وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا أي مهلناه ودرجناك فيه تدريجا وهذا كله يدل على اعتناء الله بكتابه القرآن وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم حيث جعل انزال كتابه جارياً على أحوال الرسول ومصالحه الدينية .

وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا (34) .

وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي:بحجة وشبهة إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا أي:ولا يقولون قولا يعارضون به الحق، إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر، وأبين وأوضح وأفصحُ من مقالتهم.

ثم في هذا اعتناء كبير؛ لشرف الرسول، صلوات الله وسلامه عليه ، حيث كان يأتيه الوحي من الله بالقرآن صباحا ومساء، ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، فكل مرة كان يأتيه الملك بالقرآن كإنـزال كتاب مما قبله من الكتب المتقدمة، فهذا المقام أعلى وأجلُّ، وأعظم مكانة من سائر إخوانه من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فالقرآن أشرف كتاب أنـزله الله، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليه، أعظم نبي أرسله الله وقد جمع الله تعالى للقرآن الصفتين معا، ففي الملأ الأعلى أنـزل جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نـزل بعد ذلك إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث.

ثم قال تعالى مخبرا عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة وحشرهم إلى جهنم، في أسوأ الحالات وأقبح الصفات: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا ، وفي الصحيحين عن أنس:أن رجلا قال:يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: « اليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر أن يُمشِيَه على وجهه يوم القيامة » .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَعَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)

يقول تعالى متوعداً من كذّب رسولَه محمداً، صلوات الله وسلامه عليه، من مشركي قومه ومن خالفه، ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه، مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله، فبدأ بذكر موسى، عليه السلام، وأنه ابتعثه وجعل معه أخاه هارون وزيرا، أي:نبيًا مُوَازرا ومؤيداً وناصراً، فكذبهما فرعون وجنوده. وكذلك فعلَ بقوم نوح حين كذّبوا رسوله نوحاً، عليه السلام، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع الرسل؛ فلا فرق بين رسول ورسول، ولو فرض أن الله بعث إليهم كل رسول فإنهم سيكذبونه؛ ولهذا قال: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ اغرقناهم ، ولم يبعث إليهم إلا نوح فقط، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله، ويحذرهم نقَمه، فما آمن معه إلا قليل. ولهذا أغرقهم الله جميعا، ولم يَبق منهم أحد، ولم يبق على وجه الأرض من بني آدم سوى أصحاب السفينة فقط.

وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وجعلنا اغراقهم للناس عبرة يعتبرون بها وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا وجعلنا لهم ولمن سلك سبيلهم في التكذيب يوم القيامة عذاباً موجعا .وقوله وَعَادًا وَثَمُودَ واهلكنا عادا قوم هود وثمود قوم صالح وَأَصْحَابَ الرَّسِّ من الأمم السابقة

وقوله: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا أي:وأمما بين أضعاف مَنْ ذُكر أهلكناهم كثيرة؛ ولهذا قال: ( وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ أي:بينا لهم الحجج، ووضَّحنا لهم الأدلة وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا أي:أهلكنا إهلاكاً .

والقرن: هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد؛ فإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهم قرن ثان، كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » الحديث.

وقوله: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني:قوم لوط، وهي سَدوم ومعاملتها التي أهلكها الله بالقلب، وبالمطر بالحجارة من سجيل،ولهذا قال: أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا أي:فيعتبروا بما حَلّ بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول ومخالفتهم أوامر الله حيث كان مشركو مكة يمرون في اسفارهم على قرية قوم لوط فلم يعتبروا بها بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا يعني:المارين بها من الكفار لا يعتبرون لأنهم لا يرجون نشوراً، أي:معادًا يوم القيامة .

وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (43)

يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، إذا رأوه يعنونه بالعيب والنقص، وقال : وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا ؟ أي:على سبيل التنقص والازدراء - قبَّحهم الله -

وقولهم : إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا يعنون:أنه كاد يثنيهم عن عبادة أصنامهم، لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا على عبادتها. قال الله تعالى متوعدا لهم ومتهددا: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا .

ثم قال تعالى لنبيه، منبهًا له أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال، فإنه لا يهديه أحد إلا الله.

أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أي:مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه، كان دينَه ومذهبَه، ولهذا قال : أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا .

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا (44)

ثم قال: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا أي:أسوأ حالا من الأنعام السارحة، فإن تلك تعقل ما خلقت له، وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له، وهم يعبدون غيره ويشركون به، مع قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسل إليهم.

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)

من هاهنا شرع تعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة، فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ؟ :ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك كمال قدرة ربك وسعة رحمته أنه مد على العباد الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا أي:دائما لا يزول .

وقوله: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ أي على الظل دَلِيلا فلولا وجود الشمس لما عرف الظل ، ، فإن الضد لا يعرف إلا بضده.

وقوله: ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا فكلما ارتفعت الشمس تقلص الظل شيئاً فشيئا حتى يذهب الظل بالكلية.

وقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا أي:من رحمته بكم ولطفه أن جعل الليل لكم بمنزلة اللباس اللذي يغشاكم حتى تستقروا فيه .

وَالنَّوْمَ سُبَاتًا أي:قَطْعَا للحركة لراحة الأبدان، فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعايش، فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات، فاستراحت فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معا.

وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا أي:ينتشر الناسُ فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم .

وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا(50)

وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم، وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته وهو المطر فثار بها السحاب وتألف وصار كسفا وألقحته وأدرته بإذن آمرها والمتصرف فيها ليقع استبشار العباد بالمطر قبل نزوله وليستعدوا له قبل أن يفاجئهم دفعة واحدة :وَأَنـزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا يطهر من الحدث والخبث والغش والأدناس.

وقوله: لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وفيه بركة من بركته ليحيي به أرضاً قد طال انتظارها للغيث، فهي هامدة لا نبات فيها . فلما جاءها الحيا عاشت واكتست رباها أصناف النوابت والأشجار مما يأكل الناس والأنعام .

وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا أي:وليشرب منه الحيوان من أنعام وبَشر محتاجين إليه غاية الحاجة، لشربهم وزروعهم وثمارهم .

وقوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا أي:أمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب فمر على الأرض وتعداها وجاوزها إلى الأرض الأخرى، فأمطرتها وكفتها ، والتي وراءها لم ينـزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة.

حيث ذكر تعالى هذه الآيات المشاهدة وصرفها للعباد ليعرفوه ويشكروه ويذكروه ومع ذلك أبى اكثر الخلق إلا كفورا لفساد اخلاقهم وطبائعهم قال تعالى فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا

وقال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)

يقول تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا يخبر تعالى عن نفوذ مشيئته وانه لو شاء لبعث في كل قرية رسولاً ينذرهم ويحذرهم فمشيئته غير قاصرة عن ذلك ولكن اقتضت حكمته ورحمته بك وبالعباد يا محمد أن أرسلك إلى جميعهم عربيهم وعجميهم إنسهم وجنهم لتبلغ الناس هذا القرآن. فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ في ترك شيء مما أرسلت به بل ابذل جهدك في تبليغ ما أرسلت به وَجَاهِدْهُمْ بِهِ بالقرآن جِهَادًا كَبِيرًا أي لا تبق من مجهودك في نصر الحق وقمع الباطل إلا بذلته ولو رأيت منهم من التكذيب والجراءة ما رئيت واستفرغ وسعك ولا تيأس من هدايتهم ولا تترك إبلاغهم لأهوائهم .

وقوله: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلط البحرين هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهو البحر الحلو وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ أي مالح مر لا يستساغ

وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا أي بين العذب والمالح بَرْزَخًا أي:حاجزاً وَحِجْرًا مَحْجُورًا أي:مانعاً أن يصل أحدهما إلى الآخر .

وقوله: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا وهو الذي خلق من مني الرجل والمرأة ذرية ذكوراً وإناثا فنشأ من هذا قرابة النسب وقرابة المصاهرةوكان ربك قديراً على خلق ما يشاء

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)

ومع كل هذه الدلائل على قدرة الله وإنعامه على خلقه يعبد الكفار من دون الله ما لا ينفعهم إن عبدوه ولا يضرهم إن تركوا عبادته وكان الكافر عونا للشيطان على ربه بالشرك في عبادة الله مظاهراً له على معصيته

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) .

ثم قال تعالى لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا أي:بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين، مبشرا بالجنة لمن أطاع الله، ونذيراً بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله.

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي:على هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجرة أطلبها من أموالكم، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا أي:طريقا ومسلكا ومنهجا ُيقتدى فيها بما جئت به.

ثم قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ أي:في أمورك كلها كُن متوكلا على الله الحي الذي لا يموت أبدا، الذي هو الدائم الباقي السرمدي الأبدي، الحي القيوم ربّ كل شيء ومليكه، اجعله ذُخْرك وملجأك، وهو الذي يُتَوكل عليه ويفزع إليه، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك .

وقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ، أي:اقرن بين حمده وتسبيحه ؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « سبحانك اللهم رَبَّنا وبحمدك » أي:أخلص له العبادة والتوكل

وقوله: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا أي:لعلمه التام الذي لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة.

وقوله: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها الأحد وآخرها الجمعة ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ استواءً يليق بجلاله وكماله الرَّحْمَنُ الذي عمت رحمته العالمين فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا أي فسأل يا محمد بالرحمن خبيراً بخلقه فإنه خالق كل شيء والعليم بكل شيء فهو وحده العليم بعظمة عرشه وسعة ملكه وجلال وكمال نفسه لا إله إلا هو ولا رب سواه

ثم قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ ؟ أي:لا نعرف الرحمن. وكانوا ينكرون أن يُسَمّى الله باسمه الرحمن، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب علي بن أبي طالب: « اكتب بسم الله الرحمن الرحيم » فقالوا:لا نعرف الرحمن اكتب باسمك اللهم ، فقال صلى الله عليه وسلم اكتب :باسمك اللهم " رواه مسلم ، وقال في هذه الآية: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ الذي أنعم عليكم بسائر النعم ودفع عنكم جميع النقم قَالُوا جحداً وكفرا وَمَا الرَّحْمَنُ بزعمهم الفاسد أنهم لا يعرفون الرحمن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا أي لمجرد أمرك إيانا وهذا مبني منهم على التكذيب بالرسول واستكبارهم عن طاعته وَزَادَهُمْ دعوته إلى السجود إلى الرحمن نُفُورًا هرباً من الحق إلى الباطل وزيادةكفر وشقاء ، أما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويُفْرِدُونه بالإلهية ويسجدون له.وهذه السجدة التي في الفرقان مشروع السجودُ عندها لقارئها ومستمعها

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا يقول تعالى ممجدا نفسه، ومعظما على جميل ما خلق في السماء من البروج وهي الكواكب العظام وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وهي الشمس المنيرة، التي هي كالسراج في الوجود فيها النور والحرارة وَقَمَرًا مُنِيرًا حيث فيه النور لا الحرارة وهذا من أدلة عظمته وكثرة احسانه فإن مافيها من الخلق الباهر والتدبير المنتظم والجمال العظيم دال على عظمة خالقها في اوصافه كله وما فيها من المصالح للخلق والمنافع دليل على كثرة خيراته

ثم قال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً أي:يخلف كل واحد منهما الآخر، يتعاقبان لا يفتران. إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب ذاك.

وقوله: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر ويستدل بهما على كثير من المطالب الإلاهية ويشكر الله على ذلك ولمن أراد أن يذكر الله ويشكره وله ورد من الليل أو النهار فمن فاته ورد من أحدهما أدركه في الآخر . وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها » .

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) .

هذه صفات عباد الله المؤمنين الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا أي:بسكينة ووقار من غير جَبَرية ولا استكبار ولا مرح، ولا أشر ولا بطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى من التصانع تصنعًا ورياء، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب، وكأنما الأرض تطوى له. وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شابًا يمشي رُويدًا، فقال:ما بالك؟ أأنت مريض؟ قال:لا يا أمير المؤمنين. فعلاه بالدرة، وأمره أن يمشي بقوة. وإنما المراد بالهَوْن هاهنا السكينة والوقار، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فأتموا (رواه الترمذي وصححه الألباني عن أبي هريرة )

وقوله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا أي:إذا سَفه عليهم الجهال بالسّيئ، لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا وهذا مدح لهم بالحلم الكثير ومقابلة المسيء بالإحسان والعفو عن الجاهل والرزانة في العقل التي اوصلهم إلى هذا الحال

وقوله: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا أي يكثرون من صلاة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين له ، ولهذا قال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ أي ادفع عنا بالعصمة من اسبابه ومغفرة مما وقع منا مما هو مقتضى للعذاب إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا أي:ملازما لأهلها بمنزلة ملازمة الغريم لغريمة.

إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا إن جهنم شر قرار وإقامة .

وقوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا النفقات الواجبة والمستحبة لَمْ يُسْرِفُوا بأن يزيدوا على الحد فيدخلوا في قسم التبذير وَلَمْ يَقْتُرُوا فيدخلوا في باب البخل والشح وَكَانَ إنفاقهم بَيْنَ ذَلِكَ بين الإسراف والتقتير قَوَامًا يبذلون في الواجبات من الزكوات والكفارات والنفقات الواجبة وفيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر ولا ضرار وهذا من عدلهم واقتصادهم

وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) .

روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ، قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ بل يعبدونه وحده مخلصين له الدين حنفاء مقبلين عليه معرضين عن ما سواه وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وهي نفس المسلم والكافر المعاهد إِلَّا بِالحَقِّ كقتل النفس بالنفس وقتل الزاني المحصن والكافر الذي يحل قتله وَلاَ يَزْنُونَ بل يحفظون فروجهم وقوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أي الشرك بالله أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق أو الزنا يَلْقَ أَثَامًا عقاباً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ أي في العذاب مُهَانًا ذليلاً حقيراًإِلا مَنْ تَابَ عن هذه المعاصي وغيرها بأن أقلع عنها في الحال وندم على ما مضى له من فعلها وعزم عزماً جازماً ألا يعود وَآمَنَ بالله إيماناً صحيحاً يقتضي ترك المعاصي وفعل الطاعات وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا مما امر به الشارع إذا قصد به وجه الله فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ أي تتبدل أفعالهم وأقوالهم حسنات فيتبدل شركهم إيماناً ومعصيتهم طاعة وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا لمن تاب يغفر الذنوب العظيمة رَحِيمًا بعباده حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم ثم وفقهم لها فقبلها منهم

وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا أي فليعلم أن توبته في غاية الكمال لأنها رجوع إلى الطريق الموصل إلى الله الذي هو عين سعادة العبد وفلاحه فاليخلص فيها ويخلصها من شوائب الاغراض الفاسدة

وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)

وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن، أنهم: لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ لا يحضرون مجالس الكذب وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ اشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه ولكن عند المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة دينية ولا دنيوية ككلام السفهاء ونحوهم مَرُّوا كِرَامًا أي نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ورأوا أن الخوض فيه أنه سفه ونقص للمروءةفربأوا بأنفسهم عنه

وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ التي امرهم باستماعها والاهتداء بها لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا أي لم يقابلوها بالاعراض عنها والصمم عن سماعها وصرف النظر والقلوب عنها

وقوله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ يعني:الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم وذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له فتقر بهم أعينهم

وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا هداة مهتدين ودعاة إلى الخير .

أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) .

لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من هذه الصفات الجميلة، والأفعال والأقوال الجليلة - قال بعد ذلك كله: أُوْلَئِك أي:المتصفون بهذه يُجْزَوْن أي:يوم القيامة الْغُرْفَةَ أي المنازل الرفيعة والمساكن الأنيقة الجامعة لكل ما يشتهى وتلذ الأعين. بِمَا صَبَرُوا بسبب صبرهم وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا وسيلقون في الجنة التحية والتسليم من الملائكة خَالِدِينَ فِيهَا أبداً من غير موت حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا أي يقرون فيه وَمُقَامًا يقيمون به .

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي أخبر الله تعالى أنه لا يكترث بالناس لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ أي لولا دعاؤهم إياه دعاء العبادة ودعاء المسألة فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أيها الكافرون فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا فسوف يكون تكذيبكم مفضياً إلى عذاب يلزمكم ويهلككم في الدنيا والاخرة.

تم بحمد الله تفسير سورة الفرقان ، ولله الحمد والمنَّة .

1440-4-1 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 9 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 122 ‌‌مكانة المرأة في الإسلام - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 121 الجزء الثالث عوامل النصر  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر