الدرس 152 أحداث السنة التاسعة عشرة رقم (24)

المقال
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 21 ذو الحجة 1439هـ | عدد الزيارات: 1175 القسم: الفوائد الكتابية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...وبعد؛

قال الله تعالى: { يا أيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عَيْلَةً فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم * قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [التوبة: 28 - 29] .

روي عن ابن عباس وغيره أنه لما أمر الله تعالى أن يُمنع المشركون من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره.

قالت قريش لينقطعن عنا المتاجر والأسواق أيام الحج، وليذهبن ما كنا نصيب منها؛ فعوضهم الله عن ذلك الأمر بقتال أهل الكتاب حتى يُسْلموا، أو يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

فعزم رسول الله ﷺ على قتال الروم لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق، لقربهم إلى الإسلام وأهله.

فلما عزم رسول الله ﷺ على غزو الروم عام تبوك، وكان ذلك في حر شديد، وضيق من الحال، جلى للناس أمرها، ودعى من حوله من أحياء الأعراب للخروج معه، فأوعب معه بشر كثير من ثلاثين ألفا، وتخلف آخرون، فعاتب الله من تخلف منهم لغير عذر من المنافقين والمقصرين، ولامهم ووبخهم وقرعهم أشد التقريع، وفضحهم أشد الفضيحة، وأنزل فيهم قرآنا يتلى، وبين أمرهم في سورة براءة، وأمر المؤمنين بالنفر .

فقال تعالى: { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون } [التوبة: 41 - 42] .

قال محمد بن إسحاق: ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب - يعني: من سنة تسع - ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم.

فذكر محمد الزهري، وعبد الله بن أبي بكر، وغيرهما أن رسول الله ﷺ أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص في الحال من الزمان الذي هم عليه.

وكان رسول الله ﷺ قل ما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد المشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يُصمد إليه، ليتأهب الناس لذلك أهبته.

فأمرهم بالجهاد وأخبرهم أنه يريد الروم.

فقال رسول الله ﷺ ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس - أحد بني سلمة -: «يا جد هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟».

فقال: يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر.

فأعرض عنه رسول الله ﷺ وقال: «قد أذنت لك».

ففي الجد أنزل الله هذه الآية: { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } [التوبة: 49] .

وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد، وشكا في الحق، وإرجافا بالرسوابن هشامل ﷺ فأنزل الله فيهم: { وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون * فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون } [التوبة: 81 - 82] .

روي عن محمد بن إسحاق قال: بلغ رسول الله ﷺ أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي - وكان بيته عند جاسوم - يثبطون الناس عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا.

قال محمد بن إسحاق: ثم إن رسول الله ﷺ جد في سفره، وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحض أهل الغنى على النفقة، والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة لم يُنفق أحد مثلها.

قال عبدالله بن هشام: فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار.

فقال رسول الله ﷺ: «اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض».

وروى أبو داود عن الأحنف بن قيس سمعت عثمان بن عفان يقول لسعد ابن أبي وقاص، وعلي والزبير وطلحة: أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله ﷺ قال: «من جهز جيش العسرة غفر الله له» فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا.

قالوا: اللهم نعم!

قال الله تعالى: { وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين * رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون * أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم * وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم * ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون * إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون } [التوبة: 86 - 93] .

فالمقصود ذكر البكائين الذين جاؤا إلى رسول الله ﷺ ليحملهم حتى يصحبوه في غزوته هذه، فلم يجدوا عنده من الظهر ما يحملهم عليه، فرجعوا وهم يبكون تأسفا على ما فاتهم من الجهاد في سبيل الله، والنفقة فيه.

قال محمد بن إسحاق: وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم.

فمن بني عمرو بن عوفي: سالم بن عمير، وعُلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري.

وقال محمد بن إسحاق أيضا : فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النُضري لقي أبا ليلى، وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان.

فقال: ما يبكيكما؟

قالا: جئنا رسول الله ﷺ ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحا له، فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر، فخرجا مع النبي ﷺ.

.

وروى البخاري ومسلم عن أبي موسى قال: أتيت رسول الله ﷺ في رهط من الأشعريين ليحملنا.

فقال: «والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه»

قال: ثم جيء رسول الله ﷺ بنهب إبل فأمر لنا بست ذودعر الذرى، فأخذناها.

ثم قلنا: يعقلنا رسول الله ﷺ يمينه، والله لا يبارك لنا، فرجعنا له.

فقال: «ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم».

ثم قال: «وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها».

قال محمد بن إسحاق: وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم الغَيّبة، حتى تخلفوا عن رسول الله ﷺ من غير شك ولا ارتياب.

منهم: كعب بن مالك ابن أَبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن ربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم أ.هــ.

أما الثلاثة فقد أنزل الله فيهم: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم }. [التوبة: 118] .

وأما أبو خيثمة: فإنه عاد وعزم على اللحوق برسول الله ﷺ .

قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: ثم استتب برسول الله ﷺ سفره، وأجمع السير، فلما خرج يوم الخميس ضرب عسكره على ثنية الوداع ومعه زيادة على ثلاثين ألفا من الناس، وضرب عبد الله بن أبي عدو الله عسكره أسفل منه - وما كان فيما يزعمون بأقل العسكرين - فلما سار رسول الله ﷺ تخلف عنه عبد الله ابن أبي في طائفة من المنافقين، وأهل الريب.

قال عبدالله بن هشام: واستخلف رسول الله ﷺ على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري.

قال محمد بن إسحاق: وخلف رسول الله ﷺ علي ابن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استقلالا له، وتخففا منه، فلما قالوا ذلك، أخذ علي سلاحه، ثم خرج حتى لحق برسول الله ﷺ وهو نازل بالجرف، فأخبره بما قالوا.

فقال: «كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي».

فرجع علي، ومضى رسول الله ﷺ في سفره.

قال محمد بن إسحاق: ثم إن أبا خيثمة رجع بعد ما سار رسول الله ﷺ أياما إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له.

فقال رسول الله ﷺ في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم ما هذا بالنصف!والله لا أدخل عريش واحدة منكما، حتى ألحق برسول الله ﷺ فهيئا زادا ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله ﷺ حتى أدركه حين نزل تبوك.

وكان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله ﷺ فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك.

قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله ﷺ ففعل حتى إذا دنا من رسول الله ﷺ.

قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل.

فقال رسول الله ﷺ: «كن أبا خيثمة».

فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة.

فلما بلغ، أقبل فسلم على رسول الله ﷺ.

فقال له: «أولى لك يا أبا خيثمة».

ثم أخبر رسول الله ﷺ الخبر فقال: خيرا ودعا له بخير.

وقد ذكر عروة بن الزبير وموسى بن عقبة: قصة أبي خيثمة بنحو من سياق محمد بن إسحاق وأبسط

وروى الإمام أحمد: عن عبد الله بن محمد بن عقيل في قوله: «الذين اتبعوه في ساعة العسرة»التوبة 117.

قال: خرجوا في غزوة تبوك؛ الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وخرجوا في حر شديد، فأصابهم في يوم عطش، حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة في الماء، وعسرة في النفقة، وعسرة في الظهر

وروى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة قالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم افعلوا فجاء عمر فقال يا رسول الله إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع الله لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فدعا بنطع فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيء بكف ذرة ويجيء الآخر بكف تمر ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بالبركة ثم قال خذوا في أوعيتكم فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة.

وبالله التوفيق .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

1439/12/21هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 8 =

/500
روابط ذات صلة