تفسير سورة الشعراء

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 17 ذو القعدة 1439هـ | عدد الزيارات: 2140 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

أما بعد..

سورة الشعراء مكية ، وآياتها 227

بسم الله الرحمن الرحيم

طسم ( 1 ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 3 ) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( 4 ) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ( 5 ) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 6 ) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( 7 ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ( 8 ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 9 ) .

الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، تكلمنا عليه سابقاً.

وقوله: ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) أي:هذه آيات القرآن المبين، أي:البين الواضح، الذي يفصل بين الحق والباطل، والغي والرشاد ،الدال على جميع المطالب الإلاهية والمقاصد الشرعية بحيث لا يبقى عند الناظر فيه شك ولا شبهة فيما أخبر به أو حكم به لوضوحه ودلالته على أشرف المعاني وارتباط الأحكام بحكمه وتعليقها بمناسبها وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينذر به الناس ويهدي به الصراط المستقيم فيهتدي بذلك عباد الله المتقون ويعرض من كتب عليه الشقاء فكان يحزن حزناً شديدا على عدم إيمانهم حرصاً منه على الخير فلهذا قال تعالى عنه .

( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفسك ) أي:مهلكها وشاقٌ عليها مما تحرص وتحزن [ عليهم ] ( أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) وهذه تسلية من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه، في عدم إيمان مَنْ لم يؤمن به من الكفار .

ثم قال الله تعالى: ( إِنْ نَشَأْ نُنـزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) أي:لو شئنا لأنـزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، ولكَّنا لا نفعل ذلك؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري، فنَفَذ قَدَرُه، ومضت حكمته، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم، وإنـزال الكتب عليهم.

ثم قال: ( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) أي:كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس ولهذا قال تعالى هاهنا: ( فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) أي:سيقع بهم العذاب ويحل بهم ما كذبوا فإنهم قد حقت عليهم كلمة العذاب .

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) تعالى على عظمته في سلطانه وجلالة قدره وشأنه، الذين اجترؤوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه، وهو القاهر العظيم القادر، الذي خلق الأرض وأنبت فيها من جميع اصناف النباتات حسنة المنظر كريمة في نفعها .

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) أي:دلالة على قدرة الخالق للأشياء، الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء(وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) ، ومع هذا ما آمن أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله وكتبه، وخالفوا أمره وارتكبوا زواجره.

وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي أهلك الاشقياء بأنواع العقوبات، (الرحيم) بالسعداء حيث انجاهم من كل شر وبلاء .

وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 10 ) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ( 11 ) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ( 12 ) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ( 13 ) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ( 14 ) قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ( 15 ) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 16 ) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 17 ) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ 18 وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ 19

اعاد الباري تعالى قصة موسى وثناها في القرآن لكونها مشتملة على حكم عظيمة وعبر وفيها نبأه مع الظالمين والمؤمنين فهو صاحب الشريعة وهي التوراة وهوعبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران، صلوات الله وسلامه عليه، حين ناداه من جانب الطور الأيمن، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه؛ ولهذا قال: ( أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)الذين تكبروا في الأرض وعلوا على أهلها وادعى كبيرهم الربوبية قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ أي قل لهم بلين قول ولطف عبارة ألا تتقون الله الذي خلقكم ورزقكم وتتركون ما أنتم عليه من الكفر

فقال موسى عليه السلام معتذراً من ربه ومبيناً لعذره وسائلا ربه المعونة على هذا الحمل الثقيل * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) .

وقوله: ( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) أي:بسبب ما كان من قتل ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر.

( قَالَ كَلا )أي لا يتمكنون من قتلك .

(فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا) الدالة على صدقكما وصحة ما جئتما به (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) احفظكما واكلئكما .

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أي:أُرسلنا إليك لتؤمن به وتنقاد لعبادته وتذعن لتوحيده ، ( أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي:أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك، فإنهم عباد الله المؤمنون، وحزبه المخلصون. فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون عما هنالك بالكلية، ونظر بعين الازدراء فقال: ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ . وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) أي:أما أنت الذي ربيناه فينا ، وفي بيتنا وعلى فراشنا وغذيناه، وأنعمنا عليه مدة من السنين، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة،وهي قتل موسي للقبطي حين استغاثه الذي من شيعته من بني إسرائيل على الذي من عدوه من آل فرعون ولهذا قال: ( وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) أي:الجاحدين.

قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ( 20 ) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 21 ) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 22 )

( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا ) أي:في تلك الحال، ( وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) أي:قبل أن يوحى إليّ وينعم الله عليَّ بالرسالة والنبوة .

( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ)حين تراجعتم بقتلي فهربت إلى مدين ومكثت سنين ثم جئتكم (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ )فقد ارسلني الله إليك فإن اطعته سلمت وإن عصيته عَطبت .

ثم قال موسى: ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي:وما أحسنت إلي وربَّيْتني مقابل ما أسأتَ إلى بني إسرائيل، فجعلتهم عبيدا وخدما، تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك ،وليس ما ذكرتَه شيئا بالنسبة إلى ما فعلتَ بهم.

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 23 ) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ 24 قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ( 25 ) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ( 26 ) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( 27 ) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ 28

يقول تعالى مخبرًا عن كفر فرعون، وتمرده وطغيانه وجحوده، في قوله: ( وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ؟

فقال موسى لما سأله عن رب العالمين: ( قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) أي:خالق جميع ذلك ومالكه، والمتصرف فيه وإلهه، لا شريك له، هو الله الذي خلق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار، وجبال وأشجار، وحيوان ونبات وثمار، وما بين ذلك من الهواء والطيور، وما يحتوي عليه الجو، الجميع عبيد له خاضعون ذليلون.

( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) أي:إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة. فعند ذلك التفت فرعون إلى مَنْ حوله من مَلَئه ورؤساء دولته قائلا لهم، على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله:

أَلا تَسْتَمِعُونَ أي:ألا تعجبون مما يقول هذا في زعمه:أن لكم إلها غيري؟ فقال لهم موسى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ أي:خالقكم وخالق آبائكم الأولين ، الذين كانوا قبل فرعون وزمانه.

( قال ) أي:فرعون لقومه: ( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) أي:ليس له عقل في دعواه أن ثمّ ربا غيري .

( قال ) أي:موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبه، فأجاب موسى بقوله: ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) أي:هو الذي جعل المشرق مشرقًا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربًا تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها، مع هذا النظام الذي سَخّرها فيه وقدّرها، فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقًا فليعكس الأمر، وليجعل المشرق مغربًا، والمغرب مشرقًا، ولهذا لما غُلب فرعون وانقطعت حجته، عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى، عليه السلام، فقال ما أخبر الله تعالى عنه:

قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( 29 ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ( 30 ) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 31 ) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ( 32 ) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ 37

لما قامت على فرعون الحجة بالبيان والعقل، عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه، وظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال فقال: ( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) . فعند ذلك قال موسى: ( أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ) أي:ببرهان قاطع واضح.

( قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ )ظاهرٌ لكل احد لا خيال ولا تشبيه

( وَنـزعَ يَدَهُ ) أي:من جيبه ( فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ) أي:تتلألأ كقطعة من القمر. فبادر فرعون - بشقائه - إلى التكذيب والعناد، فقال للملأ حوله: ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) أي:فاضل بارع في السحر. فَرَوَّج عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة، ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته، والكفر به. فقال يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ أي:أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا، فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم، فيأخذ البلاد منكم، فأشيروا عليَّ فيه ماذا أصنع به؟

( قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ) أي:أخِّره وأخاه حتى تجمع له من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحَّار عليم يقابلونه، ويأتون بنظير ما جاء به، فتغلبه أنت وتكون لك النصرة والتأييد. فأجابهم إلى ذلك. وكان هذا من تسخير الله تعالى لهم في ذلك؛ ليجتمع الناس في صعيد واحد، ولتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة.

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ( 38 ) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ( 39 )

ذكر الله تعالى هذه المناظرة الفعلية بين موسى والقبط وذلك أن القبط أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وهذا شأن الكفر والإيمان، ما تواجها وتقابلا إلا غلبه الإيمان، ولهذا لما جاء السحرة، وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر، وكانوا إذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك، وكان السحرة جمعًا كثيرًا، وجمًا غفيرًا.

واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم.

لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ( 40 ) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ( 41 ) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ 42 قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ( 43 ) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ( 44 ) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( 45 ) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ 46 قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 47 ) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ( 48 ) .

وقال قائلهم: ( لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ* فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) ، ولم يقولوا:نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم. ( فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ ) أي:إلى مجلس فرعون وقد ضُرب له وطاقا، وجمع حشمه وخدمه وأمراءه ووزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته، فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا، أي:هذا الذي جمعتنا من أجله، فقالوا: ( أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) أي:وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي.

، وقد اختصر هذا هاهنا فقال لهم موسى: ( أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ) ،وأقسموا بعزة فرعون والمقسم عليه أنهم غالبون. .

( فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ) تجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئا.

وكان هذا أمرا عظيما جدًا، وبرهانًا قاطعًا للعذر وحجة دامغة، وذلك أن الذين استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا، قد غلبوا وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة، وسجدوا لله رب العالمين، الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة، فَغُلِبَ فرعون غَلبًا لم يشاهد العالم مثله، وكان وقحًا جريئًا عليه لعنة الله، فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل، فشرع يتهددهم ويتوعدهم.

قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( 49 ) قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ( 50 ) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ( 51 ) .

تهددهم فلم يقطع ذلك فيهم، وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما. وذلك أنه قد كُشف عن قلوبهم حجاب الكفر، وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم، من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر، إلا أن يكون الله قد أيده به، وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه؛ ولهذا لما قال لهم فرعون: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي:كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم، ولا تَفتاتوا عليَّ في ذلك، فإن أذنت لكم فعلتم، وإن منعتكم امتنعتم، فإني أنا الحاكم المطاع؛ ( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) . وهذه مكابرة يعلم كل أحد بُطلانها، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر هذا لا يقوله عاقل.

ثم توعَّدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب، فقالوا: ( لا ضَيْرَ ) أي:لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به ( إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ) أي:المرجع إلى الله، وهو لا يضيع أجر مَنْ أحسن عملا ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء؛ ولهذا قالوا: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا ) أي:ما قارفناه من الذنوب، وما أكرهتنا عليه من السحر ، ( أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي:بسبب أنا بادرنا قومنا إلى الإيمان.

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ 52 فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( 53 ) إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ( 54 ) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ 55 وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ( 56 ) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 57 ) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( 58 ) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 59 ) .

لما طال مُقام موسى، عليه السلام، ببلاد مصر، وأقام بها حُجَج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال، فأمر الله موسى، عليه السلام، أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤُمَر، ففعل موسى، عليه السلام، ما أمره به ربه عز وجل. خرج بهم بعدما استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا، وكان خروجه بهم، فيما ذكر غير واحد من المفسرين، وقت طلوع القمر.

فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب، غاظ ذلك فرعون واشتد غضبه على بني إسرائيل؛ لما يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعا في بلاده حاشرين، أي:مَنْ يحشر الجندَ ويجمعه، كالنّقباء والحُجَّاب، ونادى فيهم: ( إِنَّ هَؤُلاءِ ) - يعني:بني إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ أي:لطائفة قليلة.

( وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ) أي:كل وقت يصل لنا منهم ما يغيظنا.

( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) أي:نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وإني أريد أن أستأصل شأفتهم، وأبيد خضراءهم. فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم.

قال الله تعالى: ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) أي:فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم، وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق والملك والجاه الوافر في الدنيا.

( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا)أي هذه البسااين والعيون والزروع والمقام الكريم (بَنِي إِسْرَائِيلَ)الذين جعلوهم من قبل عبيدهم وسُخروا في أعمالهم الشاقة فسبحان من يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز من يشاء بطاعته ويذل من يشاء بمعصيته .

فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ( 60 ) أي:وصلوا إليهم عند شروق الشمس، وهو طلوعها.

ذكر غير واحد من المفسرين:أن فرعون خرج في جحفل عظيم وجمع كبير ، وهو عبارة عن مملكة الديار المصرية في زمانه، أولي الحل والعقد ، من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود .

فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( 61 ) قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ( 62 ) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ( 63 ) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ ( 64 ) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ 65 ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ( 66 ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ ) أي:رأى كل من الفريقين صاحبه، فعند ذلك ( قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) ، وذلك أنه انتهى بهم السير إلى سيف البحر، وهو خليج السويس، فصار أمامهم البحر، وفرعون قد أدركهم بجنوده، فلهذا قالوا: ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) أي:لا يصل إليكم شيء مما تحذرون، فإن الله، سبحانه، هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم، وهو لا يخلف الميعاد.

وكان هارون، عليه السلام، في المقدمة، ومعه يوشع بن نون، ومؤمن آل فرعون وموسى، عليه السلام، في الساقة، وقد ذكر غير واحد من المفسرين:أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون، وجعل يوشع بن نون يقول لموسى، عليه السلام:يا نبي الله، هاهنا أمرك الله أن تسير؟ فيقول:نعم، واقترب فرعون وجنوده، ولم يبق إلا القليل، فعند ذلك أمر الله نبيه موسى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه.

قال الله تعالى: ( فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) أي:كالجبل الكبير..

فصار البحر اثني عشر طريقًا.

( وأزلفنا ثمَّ ) ذلك المكان ( الآخرين ) أي فرعون وقومه قربناهم وأدخلناهم في ذلك الطريق الذي سلك منه موسى وقومه .

( وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ) أي:أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن معهم على دينهم فلم يهلك منهم أحد، وأغرق فرعون وجنوده، فلم يبق منهم رجل إلا هلك.

ثم قال تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) أي:في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين؛ لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة، ( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) وما صار أكثر اتباع فرعون مؤمنين مع هذه العلامة الباهرة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )بعزته أهلك الكافرين المكذبين وبرحمته نجّى موسى ومن معه أجمعين .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ( 69 ) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ( 70 ) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ( 71 ) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ( 72 ) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ( 73 ) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ( 74 ) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ( 75 ) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ ( 76 ) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ ( 77 ) .

هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء، أمر الله رسوله محمدا، صلوات الله وسلامه عليه، أن يتلوه على أمته، ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل، وعبادة الله وحده لا شريك له، والتبرؤ من الشرك وأهله؛ فإن الله تعالى منح إبراهيم رشده من قبل، أي:من صغره إلى كبره، فإنه من وقت نَشَأ وشَب، أنكر على قومه عبادة الأصنام مع الله، عز وجل، فقال: ( لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ) ؟ أي:ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟

( قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ) أي:مقيمين على عبادتها ودعائها.

( قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) يعني:اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك، وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون، فهم على آثارهم يُهرعون. فعند ذلك قال لهم إبراهيم: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ أي:إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير، فَلْتَخْلُص إلي بالمساءة، فإني عدو لها لا أباليها ولا أفكر فيها.

الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ( 78 ) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ( 79 ) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ( 80 ) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ( 81 ) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ( 82 )

يعني:لا أعبد إلا الذي يفعل هذه الأشياء، ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) أي:هو الخالق الذي قدر قدرًا، وهدى الخلائق إليه، فكل يجري على ما قدّر، وهو الذي يهدي من يشاء ويُضل من يشاء.

( وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ) أي:هو خالقي ورازقي، بما سخر ويَسَّر من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المُزْنَ، وأنـزل الماء، وأحيا به الأرض، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، وأنـزل الماء عذبًا زلالا .

وقوله: ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) أسند المرض إلى نفسه، وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلَقْه، ولكن أضافه إلى نفسه أدبا

( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) أي:إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره، بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه.

( وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ) أي:هو الذي يحيي ويميت، لا يقدر على ذلك أحد سواه، فإنه هو الذي يبدئ ويعيد.

( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) أي:هو الذي لا يقدر على غَفْر الذنوب في الدنيا والآخرة، إلا هو، ومن يغفر الذنوب إلا الله، وهو الفعال لما يشاء.

رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( 83 )

وهذا سؤال من إبراهيم، عليه السلام، أن يؤتيه ربه حُكْما.

(رب هب لي حكماً)أي علماً كثيرا أعرف به الأحكام والحلال والحرام وأحكم به بين الأنام

وقوله: ( وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) من اخوانه الانبياء والمرسلين

وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ( 84 ) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ( 85 ) وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ( 86 ) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ( 87 ) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ( 88 ) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( 89 ) .

وقوله: ( وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) أي اجعل لي ثناء صدقٍ مستمر إلى آخر الدهر فاستجاب الله دعاءه ووهب له من العلم والحكم ما كان به من أفضل المرسلين وألحقه باخوانه المرسلين وجعله محبوباً مقبولاً معظماً مثنى عليه في جميع المِلل في كل الأوقات .

وقوله: ( وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ) أي:أنعم عَليَّ في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي، وفي الآخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم.

وقوله: ( وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) هذا دعاء من إبراهيم عليه السلام أن ينقذ الله اباه من الضلال إلى الهدى فيغفر له ويتجاوز عنه كما وعد إبراهيم أباه بالدعاء له فلما تبين له أنه مستمر في الكفر والشرك إلى أن يموت تبرأ منه.

وقوله: ( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) ولا تلحق بي الذل يوم يخرج الناس من القبور للحساب والجزاء يوم لا ينفع المال والبنون أحداً من العباد إلا من أتى الله بقلب سليم من الكفر والنفاق .

روى البخاري في قوله: ( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يَلقى إبراهيمُ أباه آزرَ يوم القيامة، وعلى وجه آزر قَتَرَةٌ وغَبَرَةٌ، فيقول له إبراهيمُ : ألم أقل لك لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر، فإذا هو بذيخ مُلْتَطِخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار"

وقوله: ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ) أي:لا يقي المرء من عذاب الله ماله، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا: وَلا بَنُونَ ولو افتدى بِمَنْ في الأرض جميعا، ولا ينفعُ يومئذ إلا الإيمانُ بالله، وإخلاص الدين له، والتبري من الشرك؛ ولهذا قال: ( إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) من الشرك.

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ( 90 ) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ( 91 ) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ 92 مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ( 93 ) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ( 94 ) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ( 95 ) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ( 96 ) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 97 ) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 98 ) وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ ( 99 ) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ( 100 ) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ( 101 ) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 102 ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ( 103 ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 104 ) .

( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ ) أي:قُربت الجنة وأدنيت من أهلها يوم القيامة مزخرفة مزينة لناظريها، وهم المتقون الذين رغبوا فيها، وعملوا لها عملها في الدنيا.

( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ) أي: أظهرت وكُشف عنها، وبدت منها عُنقٌ، فزفرت زفرة بلغت منها القلوب إلى الحناجر، وقيل لأهلها تقريعا وتوبيخا: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ أي:ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله، من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئًا، ولا تدفع عن أنفسها؛ فإنكم وإياها اليوم حَصَبُ جَهَنم أنتم لها واردون.

وقوله: ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ) ألقي بعضهم على بعض، من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك.

( وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ )من الإنس والجن الذين أزهم إلى المعاصي أزا وتسلط عليهم بشركهم وعدم إيمانهم فصاروا من دعاته والساعيين في مرضاته .

( قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) قالوا معترفين بخطئهم وهم يتنازعون في جهنم مع من أضلوهم تالله إن كنا في الدنيا في ضلال واضح لا خفاء فيه إذ نسويكم برب العالمين المستحق للعبادة وحده .

( وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ )وما أوقعنا في هذا المصير السيء إلا المجرمون الذين دعونا إلى عبادة غير الله فاتبعناهم.

( فَمَا لَنَا)حينئذ (مِنْ شَافِعِينَ )يشفعون لنا لينقذونا من عذابه

(وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) .

أي قريب مصاف ينفعنا بأدنى نفع كما جاءت العادة بذلك في الدنيا.

( فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) وذلك أنهم يتمنون أنهم يردُّون إلى الدار الدنيا، ليعملوا بطاعة ربهم - فيما يزعمون - وهو، سبحانه وتعالى، يعلم أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.

ثم قال تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي:إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامته الحجج عليهم في التوحيد لآية ودلالة واضحة جلية على أنه لا إله إلا الله ( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) وما صار أكثر الذين سمعوا هذا النبأ مؤمنين (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ)القادر على الانتقام من المكذبين ( الرَّحِيمُ )بعباده المؤمنين .

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ 107 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 108 ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 110 ) .

هذا إخبار من الله، عز وجل، عن عبده ورسوله نوح، عليه السلام، وهو أول رسول بُعث إلى الأرض بعدما عبدت الأصنام والأنداد، بعثه الله ناهيًا عن ذلك، ومحذرًا من وَبيل عقابه، فكذبه قومه واستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم، وتكذيبهم له بمنـزلة تكذيب جميع الرسل؛ ولهذا قال: ( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ)في النسب ( نُوحٌ)وإنما ابتعث الله الرسل من نسب من أُرسل إليهم لئلا يشمئزوا من الانقياد له ولأنهم يعرفون حقيقته فلا يحتاجون أن يبحثوا عنه فقال مخاطباً لهم بألطف خطاب كما في طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ( أَلا تَتَّقُونَ ) الله تعالى فتتركون ما أنتم مقيمون عليه من عبادة الأوثان وتخلصون العبادة لله وحده

( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) أي:إني رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني به، أبلغكم رسالة الله لا أزيد فيها ولا أنقص منها.

( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)في ما آمركم به وأنهاكم عنه فإن هذا هو الذي يترتب على كونه رسولا إليهم أمينا فلذلك رتبه بالفاء الدالة على السبب فذكر السبب الموجب ثم ذكر انتفاء المانع فقال وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ فتتكلفون من المغرم الثقيل (إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي:لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم، بل أدخر ثواب ذلك عند الله ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ )كرر ذلك عليه السلام لتكريره دعوة قومه وطول مكثه في ذلك حيث مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وله من العمر 50 عاما قبل الدعوة فيكون مات وله من العمره ألف سنة

(فقالوا) ردا لدعوته ومعارضةً له بما ليس يصلح للمعارضة أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ ( 111 )

أي كيف نتبعك ونحن لا نرى أتباعك إلا اسافل الناس وأراذلهم لهذا يعرف تكبرهم على الحق وجهلهم للحقائق ولو تأملوا حق التأمل لعلموا أن اتباعه هم الأعلون خيار الخلق أهل العقول الرزينه والأخلاق الفاضلة وأن الارذل من سُلب خاصية عقله فاستحسن عبادة الأحجار ورضي أن يسجد لها ويدعوها وأبى الانقياد لدعوة الرسل الكمّل فبنوا على هذا الأصل الذي كل أحد يعرف فساده فعرفنا أنهم ضالون مخطئون ولو لم نشاهد من آيات نوح ودعوته العظيمة ما يفيد الجزم واليقين بصدقه وصحة ما جاء به ف(قَالَ) نوح عليه السلام

وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 112 ) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ( 113 ) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ 114 إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 115 ) . أي:وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي، ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه لا يلزمني التنقيب عنه والبحث والفحص، إنما عليَّ أن أقبل منهم تصديقهم إياي، وأكل سرائرهم إلى الله، عز وجل.

( إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ )أي أعمالهم وحسابهم على الله إنما علي التبليغ وأنتم دعوهم عنكم إن كان ما جئتكم به الحق فانقادوا له وكل له عمل ( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ) كأنهم قبحهم الله طلبوا منه أن يطردهم عنه تكبراً وتجبرا ليؤمنوا فقال وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ فإنهم لا يستحقون الطرد والإهانة وإنما يستحقون الإكرام من القول والفعل

( إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أي:إنما بعثت نذيرًا، فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وكنت منه ، سواء كان شريفًا أو وضيعًا، أو جليلا أو حقيرًا.

قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ 116 قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ( 117 ) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 118 فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 119 ) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ( 120 ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ( 121 ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 122 .

لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا، وجهرًا وإسرارًا، وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا على الكفر الغليظ، والامتناع الشديد، وقالوا في الآخر: ( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ) أي:عن دعوتك إيانا إلى دينك يا نوح ( لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) أي لنقتلك شر قَتلة بالرمي بالحجارة

فتباً لهم ما أقبح هذه المقابلة يقابلون الناصح الأمين الذي هو أشفق عليهم من أنفسهم بشر مقابلة لا جُرم لما انتهى ظلمهم واشتد كفرهم دعا عليهم نبيهم بدعوة احاطت بهم فقال

( رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ )

( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا)أي اهلك الباغي منا وهو يعلم أنهم البغاة الظلمة ولهذا قال ( وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .

( فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ)أي السفينة الْمَشْحُونِ من الخلق والحيوانات ( ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ)أي بعد نوح ومن معه من المؤمنين( الْبَاقِينَ ) جميع قومه . ( إِنَّ فِي ذَلِكَ )أي نجاة نوح واتباعه وإهلاك من كذبه (لآيَةً)دالة على صدق رسلنا وبطلان ما عليه أعداؤهم المكذبون بهم

( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)وما كان أكثر هؤلاء المكذبين بالبعث ، الجاحدين نبوتك يا محمد ، بمصدقيك على ما تأتيهم به من عند الله من الذكر .

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ )الذي قهر بعزه أعداءه فأغرقهم بالطوفان (الرَّحِيمُ )بأوليائه حيث نجى نوحا ومن معه من أهل الإيمان .

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ( 123 ) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ ( 124 ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( 125 ) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 126 ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 127 ) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ( 128 ) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ( 129 ) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ( 130 ) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 131 ) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ( 132 ) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ( 133 ) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 134 ) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 135 .

(كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ) كذبت القبيلة المسماة عادا رسولهم هودا وتكذيبهم له تكذيب لغيره لاتفاق الدعوة، وكانوا قومًا يسكنون الأحقاف، جنوب بلاد الحرمين ، وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب، والقوة والبطش الشديد، والطول المديد، والأرزاق الدارة، والأموال والجنات والعيون، والأبناء والزروع والثمار، وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه، فبعث الله إليهم رجلا منهم رسولا وبشيرًا ونذيرًا، فدعاهم إلى الله وحده، وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته،(إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ)في النسب(هُودٌ) بلطف وحسن خطاب(أَلا تَتَّقُونَ)الله فتتركون الشرك وعبادة غيره

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِين) أي ارسلني الله إليكم رحمة بكم واعتناء بكم وانا امين تعرفون ذلك مني رتب على ذلك قوله(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُون) أي ادوا حق الله تعالى وهو التقوى وادوا حقي وهو طاعتي فيما آمركم به وانهاكم عنه فهذا موجب لأن تتبعوني وتطيعوني وليس ثم مانع يمنعكم من الإيمان(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) فلست أسئلكم على تبليغي إياكم ونصحي لكم أجرا حتى تستثقلوا ذلك المغرم (إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) إذ هو الذي يثيب ويجزي العاملين له وفي دائرة طاعته

( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ)هو المكان المرتفع( آيَةً)علامة (تَعْبَثُونَ)تفعلون ذلك عبثًا لا للاحتياج إليه؛ بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة؛ ولهذا أنكر عليهم نبيهم، عليه السلام، ذلك؛ لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة.

ثم قال: ( وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ )أي تتخذون قصورا منيعة وحصونا مشيدة (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ )

أي:لكي تقيموا فيها أبدًا، وليس ذلك بحاصل لكم، بل زائل عنكم، كما زال عمن كان قبلكم.

روى ابن أبي حاتم رحمه الله:عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، لما رأى ما أحدث المسلمون في الغُوطة من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم فنادى:يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:ألا تستحيون! ألا تستحيون! تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، إنه كانت قبلكم قرون، يجمعون فيرعون، ويبنون فيوثقون ، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورًا، وأصبح جمعهم بورًا، وأصبحت مساكنهم قبورًا، ألا إن عادًا ملكت ما بين عدن وعُمان خيلا وركابًا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟.

وقوله: ( وَإِذَا بَطَشْتُمْ )بالخلق بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ قتلاً وضربا وأخذ اموال وكان الله تعالى قد اعطاهم قوة عظية فكان الواجب عليهم أن يستعينوا بقوتهم على طاعة الله .

( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) أي:اعبدوا ربكم، وأطيعوا رسولكم.

ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم فقال: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ)أي اعطاكم ( بِمَا تَعْلَمُونَ)أي أمدكم بما لا يُجهل ولا ينكر من الإنعام أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ من إبل وبقر وغنم (وَبَنِين)أي وكثرة نسل ( وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)اعطاكم البساتين المثمرة وفجر لكم الماء من العيون الجارية هذا تذكير بالنعم ثم ذكرهم حلول عذاب الله ؛فقال (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) أي:إن كذبتم وخالفتم.

يقول تعالى مخبرًا عن جواب قوم هود له، بعدما حذرهم وأنذرهم، وَرَغَّبَهُم ورهبهم، وبيَّن لهم الحق ووضحه: قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ( 136 ) أي:لا نرجع عما نحن فيه .

إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ( 139 ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 140 )

( إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ )أي دين الأولين

( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ )على ما نفعل مما حذرتنا منه من العذاب .

( فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ) أي:فاستمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده، فأهلكهم الله، وقد بيَّن إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحًا شديدة الهبوب ؛فكان إهلاكهم من جنسهم، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً)على صدق نبينا هود عليه السلام وصحة ما جاء به وبطلان ما عليه قومه من الشرك والجبروت ( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)مع وجود الآيات المقتضية للإيمان( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ)الذي اهلك بقوته قوم هود على قوتهم وبطشهم ( الرَّحِيمُ )بنبيه هود عليه السلام حيث نجاه ومن معه من المؤمنين .

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ( 141 ) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ ( 142 ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( 143 ) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 144 ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 145 )

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) وهذا إخبار من الله تعالى، عن عبده ورسوله صالح، عليه السلام أنه بعثه إلى ثمود القبيلة المعروفة في مدائن الحجر، شمال بلاد الحرمين وكانوا عرباً ومساكنهم معروفة مشهورة. وقد وردت أحاديث في مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم حين أراد غَزْوَة تَبُوك والتي أنتهت بالصلح بدون حرب. وقد كانوا بعد عاد، عليه السلام.(إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ )في النسب برفق ولين (أَلا تَتَّقُونَ)الله تعالى وتدعون الشرك والمعاصي (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ)من الله ربكم أرسلني إليكم لطفاً بكم ورحمة فتَلَقوا رحمته بقبول وقابلوها بالإذعان(أَمِينٌ) تعرفون ذلك مني وذلك يوجب عليكم أن تؤمنوا بي وما جئت به (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) كرر الأمر بالتقوى وبطاعته إذ هما معظم رسالته ومتى حققها المرسل إليهم إهتدوا وأفلحوا (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)تقولون يمنعنا من اتباعك أنك تريد أخذ أموالنا ( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي لا أطلب الثواب إلا منه

أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ ( 146 ) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 147 ) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ( 148 ) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ( 149 ) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 150 ) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ( 151 ) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ( 152 )

يقول لهم واعظًا لهم ومحذرًا إياهم نقم الله أن تحل بهم، ومذكرًا بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارّة، وجعلهم في أمن من المحذورات. وأنبت لهم من الجنات ، وأنبع لهم من العيون الجاريات، وأخرج لهم من الزروع والثمرات؛ ولهذا قال: ( وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ )ونخلً ثمرها يانع لين نضيج.

وقوله: ( وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ) يتخذون البيوت المنحوتة في الجبال أشرًا وبطرًا وعبثًا، من غير حاجة إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم؛ ولهذا قال: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) أي:أقبلوا على عَمَل ما يعود نفُعه عليكم في الدنيا والآخرة، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم لتوحدوه وتعبدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا.

( وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) يعني:رؤساءهم وكبراءهم، الدعاة لهم إلى الشرك والكفر، ومخالفة الحق.

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ( 153 ) مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 154 ) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ( 155 ) وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ 156 فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ( 157 ) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 158 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 159 )

يقول تعالى مخبرا عن ثمود في جوابهم لنبيهم صالح، عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة ربهم (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي قد سحرت فأنت تهذي بما لا معنى له .

ثم قالوا: ( مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) أي فأي فضيلةٍ فقتنا بها حتى تدعونا إلى اتباعك .

(فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينََ)هذا مع أن مجرد اعتبار حالته وحالة ما دعا إليه من أكبر الآيات البينات على صحة ما جاء به وصدقه ولكنهم من قسوتهم سألوا آيات الاقتراح التي في الغالب لا يفلح من طلبها لكون طلبه مبنياً على التعنت لا على الاسترشاد فـ قَالَ صالح (هَذِهِ نَاقَةٌ)تخرج من صخرة صماء ملساء ترونها وتشاهدونها بأجمعكم ( لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ )أي تشرب ماء البئر يوماً وأنتم تشربون لبنها ثم تصدر عنكم اليوم الآخر وتشربون أنتم ماء البئر ( وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حينًا من الدهر ترد الماء، وتأكل الورق والمرعى. وينتفعون بلبنها، يحتلبون منها ما يكفيهم شربًا وريًا، فلما طال عليهم الأمد وحضر شقاؤهم، تمالؤوا على قتلها وعقرها.

( فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ) وهي صيحة نزلت عليهم فدمرتهم أجمعين ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً)على صدق ما جاءت به رسلنا وبطلان معارضيهم ( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)مع وضوح الأدلة ( وَإِنَّ رَبَّكَ)أيها الرسول ( لَهُوَ الْعَزِيزُ)الغالِب الذي لا يغالب ( الرَّحِيمُ )بأوليائه وصالحي عباده .

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ( 160 ) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 163 ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 164 ) .

يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله لوط، عليه السلام، وهو:لوط بن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل، وكان الله تعالى قد بعثه إلى أقوامٍ في حياة إبراهيم، كانوا يسكنون « سدوم » وأعمالهم التي أهلكهم الله بها، وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة، وهي البحر الميت بين الأردن وفلسطين مشهورة ببلاد الغور، متاخمة لجبال البيت المقدس، بينها وبين بلاد الكَرَك في الأردن والشَّوبَك في فلسطين، فدعاهم إلى الله، عز وجل، أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم، ونهاهم عن معصية الله، وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم، مما لم يسبقهم الخلائق إلى فعله، من إتيان الذكْران دون الإناث؛ ولهذا قال تعالى:

أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ( 165 ) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ( 168 ) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ( 169 ) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ( 170 ) إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ( 171 ) ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ 172 وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ 173 إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 174 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 175 ) .

لما نهاهم نبي الله عن إتيانهم الفواحش، وغشيانهم الذكور، وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهن الله لهم - ما كان جواب قومه له إلا قالوا: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ) يعنونَ:عما جئتنا به، لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِين أي:ننفيك من بين أظهرنا، فلما رأى أنَّهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرون على ضلالتهم، تبرأ منهم فقال: ( قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ)الذي تعملونه من إتيان الذكور( مِنَ الْقَالِينَ ) أي:الُمبغضين، لا أحبه ولا أرضى به؛ فأنا بريء منكم. ثم دعا الله عليهم قال: ( رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ )من فعله وعقوبته فاستجاب الله له .

قال الله تعالى ( فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ) أي:كلهم.

( إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) وهي امرأته، وكانت عجوز سوء كافرة بقيت فهلكت مع مَنْ بقي من قومها، ( ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ)ثم أهلكنا من عاداهم من الكفرة أشد إهلاك(وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا)بعد قلب البلاد سافلها على عاليها أنزلنا عليهم حجارة من سجيل من السماء كالمطر اهلكتهم ( فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ )فقبح مطر من أنذرهم رسلهم ولم يستجيبوا لهم وقد انزل بهم أشد انواع الهلاك والتدمير ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً)إن في ذلك العقاب الذي نزل بقوم لوط لعبرة وموعظة يتعظ بها المكذبون ( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ )لما سبق من علم الله أنهم لا يؤمنون( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ)الغالب القاهر لكل الظلمة والمسرفين ( الرَّحِيمُ )بأوليائه وعباده المؤمنين .

كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ( 176 ) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ( 177 ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( 178 ) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ( 179 ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 180 )

كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ

أصحاب الأيكة أي البساتين الملتفة أشجارها وهم أهل مدين فكذبوا نبيهم شعيبا الذي جاء بما جاء به المرسلون(إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ)الله تعالى فتتركون ما يسخطه ويغضبه من الكفر والمعاصي (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)يترتب على ذلك أن تتقوا الله وتطيعون(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)فاتقوا الله بعبادته وترك عبادة ما سواه واطيعون اهديكم إلى ما فيه كمالكم وسعادتكم (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)أي على بلاغ رسالة ربي إليكم اجراً أي جزاءاً وأجرة (إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي ما أجري إلا على رب العالمين.

أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ( 181 ) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ( 182 ) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 183 )

يأمرهم تعالى بإيفاء المكيال والميزان، وينهاهم عن التطفيف فيهما، فقال: ( أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ) أي:إذا دفعتم إلى الناس فكملوا الكيل لهم، ولا تخسروا الكيل فتعطوه ناقصا، وتأخذوه - إذا كان لكم - تامًا وافيًا، ولكن خذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون.

( وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ) :القسطاس هو:الميزان العدل الذي لا يميل .

وقوله: ( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ) :أي:تَنْقُصوهم أموالهم، ( وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) :يعني:قطع الطريق .

وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ ( 184 )

يخوفهم بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل، ( وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ ) وخلق الأمم المتقدمة عليكم.

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ( 185 ) وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( 186 ) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 187 ) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 188 ) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 189 ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ( 190 ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 191 ) .

يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها - تشابهت قلوبهم - حيث قالوا: (إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) يعنون:من المسحورين.

( وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ) أي:تتعمد الكذب فيما تقوله، لا أن الله أرسلك إلينا.

(فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ)أي قطع عذاب تستأصلنا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)إن كنت صادقاً في دعوى النبوة قالوا ذلك على وجه التعنت والعناد .

(قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) قال لهم شعيب ربي اعلم بما تعملون من الشرك والمعاصي وبما تستوجبونه من العقاب ولهذا قال تعالى: (فَكَذَّبُوهُ)أي صار التكذيب لهم وصفاً والكفر لهم ديدنا بحيث لا تفيدهم الآيات وليس بهم حيلة إلا نزول العذاب( فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ)حق عليهم ما استبعدوا وقوعه فأظلتهم سحابةٌ فاجتمعوا تحتها مستلذين بظلها غير الظليل فأحرقتهم بالعذاب فظلوا تحتها خامدين ولديارهم مفارقين ولدار الشقاء والعذاب نازلين (إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)لا كرة لهم إلى الدنيا فيستأنفوا العمل ولا يفتر عنهم العذاب ساعة ولا هم ينظرون

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً)دالةٌ على صدق شعيب وصحة ما دعا إليه وبطلان رد قومه عليه(وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)مع رؤيتهم الآيات فلا خير لديهم(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه من الكافرين،(الرَّحِيمُ) بعباده المؤمنين.

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) .

لما ذكر قَصص الأنبياء مع أممهم وكيف دعوهم وما ردوا عليهم به وكيف أهلك الله أعداءهم وصارت لهم العاقبة ذكر هذا الرسول الكريم والنبي المصطفى العظيم وما جاء به من الكتاب الذي فيه هداية لأولي الألباب فقال (وإنه لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) من تعظيمه وشدة الاهتمام به من كونه نزل من الله لا من غيره مقصوداً فيه نفعكم وهدايتكم .

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ)وهو جبريل عليه السلام الذي هو أفضل الملائكة وأقواهم (الأمِينُ)الذي قد أمن أن يزيد فيه أو ينقص .

( عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) [ أي:نـزل به ملك كريم أمين، ذو مكانة عند الله، مطاع في الملأ الأعلى، ( عَلَى قَلْبِكَ ) يا محمد، سالمًا من الدنس والزيادة والنقص؛ ( لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) ] أي:لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه، وتبشر به المؤمنين المتبعين له.

وقوله: ( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) أي:هذا القرآن الذي أنـزلناه إليك أنـزلناه بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بَيِّنًا واضحًا ظاهرًا، قاطعًا للعذر، مقيمًا للحجة، دليلا إلى المحجة.

وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ ( 196 ) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 197 ) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ ( 198 ) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ( 199 ) .

يقول تعالى:وإنَّ ذِكْر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم، الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه،

ثم قال تعالى: ( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً)على صحته وأنه من الله (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الذين قد انتهى إليهم العلم وصاروا أعلم الناس وهم أهل الصنف فإن كل شيء يحصل به اشتباه يرجع فيه لأهل الخبرة والدراية فيكون قولهم حجة على غيرهم فالعدول من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته، كما أخبر بذلك مَنْ آمن منهم كعبد الله بن سلام، عَمَّنْ أدركه منهم ومَنْ شاكلهم.

وعبدالله بن سلام كان حبراً من أحبار بن إسرائيل قبل إسلامه .

( وَلَوْ نـزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ )الذين لا يفقهون لسانهم ولا يقدرون على التعبير لهم كما ينبغي (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ )يقولون ما نفقه ما يقول ولا ندري ما يدعوا إليه فليحمدوا ربهم أن جاءهم على لسان أفصح الخلق وأقدرهم على التعبير عن المقاصد بالعبارات الواضحة وليبادروا إلى التصديق به وتلقيه بالتسليم والقبول ولكن تكذيبهم له من غير شبهة إن هو إلا محض الكفر والعناد وأمرٌ قد توارثته الأمم المكذبة فلهذا قال

كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( 200 ) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ ( 201 ) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 202 ) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ( 203 ) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( 204 ) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ( 205 ) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ( 206 )

كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي ادخلنا التكذيب وانظمناه في قلوب أهل الإجرام كما يدخل السلك في الإبرة فتشربته وصار وصفا لها وذلك بسبب ظلمهم وجرمهم ولذا قال

( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) أي:بالحق (حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ)على تكذيبهم حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.

(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)أي:يأتيهم عذاب الله على حين غفلة وعدم احساس منهم ولا استشعار بنزوله ليكون ابلغ في عقوبتهم والنكال بهم (فَيَقُولُوا)إذ ذاك(هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ)أي يطلبون أن ينظروا ويمهلوا والحال أنه قد فات الوقت وحل بهم العذاب الذي لا يرفع عنهم ولا يفتر ساعة .

وقوله تعالى: ( أَفَبِعَذَابِنَا)الذي هو العذاب الأليم العظيم الذي لا يستهان به ولا يحتقر يَسْتَعْجِلُونَ فما الذي غرهم هل فيهم قوة وطاقة للصبر عليه أم عندهم قوة يقدرون على دفعه أو رفعه إذا نزل أم يعجزوننا ويظنون أننا لا نقدر على ذلك .

ثم قال: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ)أي أفرأيت إذا لم نستعجل عليهم بإنزال العذاب وأمهلناهم عدة سنين يتمتعون في الدنيا (ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ)من العذاب

مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ(207) من اللذات والشهوات فأي شيء يمنع عنهم وقوع العذاب

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ ( 208 ).

يخبر الله عن عدله في خلقه:أنَّه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم، والإنذار لهم وبعثة الرسل إليهم وقيام الحجج عليهم؛ ولهذا قال: ذِكْرَى لهم واقامة حجة عليهم وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ 209 فنهلك القرى قبل ان ننذرهم فنأخذهم وهم غافلون عن النذر

وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد:أنه نـزل به الروح الأمين المؤيد من الله، ( وَمَا تَنّزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ) . ثم ذكر أنه يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه، أحدها:أنه ما ينبغي لهم، أي:ليس هو من بُغْيتهم ولا من طلبتهم؛ لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد، وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونور وهدى وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة؛ ولهذا قال تعالى: ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ ) .

وقوله: ( وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) أي:ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك .

( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ )

ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته، لما وصلوا إلى ذلك؛ لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نـزوله؛ لأن السماء ملئت حرسًا شديدًا وشهبا في مُدّة إنـزال القرآن على رسوله، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه، لئلا يشتبه الأمر. وهذا من رحمة الله بعباده، وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه ولرسوله: .

فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ 213

يقول تعالى آمرًا بعبادته وحده لا شريك له، ومخبرًا أنّ مَنْ أشرك به عذبه.

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ( 214 ) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 215 ) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ( 216 ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( 217 ) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ( 218 ) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ( 219 ) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 220 )

ثم قال تعالى آمرًا لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه أن ينذر عشيرته الأقربين، أي:الأدنين إليه، وأنه لا يُخَلِّص أحدًا منهم إلا إيمانهُ بربه عز وجل (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ)

روى الإمام البخاري : عن أبي هريرة قالت : لما نـزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « قالَ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا، يا بَنِي عبدِ مَنَافٍ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا، يا عَبَّاسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللَّهِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا فَاطِمَةُ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي ما شِئْتِ مِن مَالِي لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا »

، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين قال تعالى (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) . ومن عصاه من خلق الله كائنًا مَنْ كان فليتبرأ منه؛ ولهذا قال: ( فَإِنْ عَصَوْكَ) في أمر من الأمور فلا تتبرأ منهم و لا تترك معاملتهم بخفض الجناح ولين الجانب فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ بل تبرأ من عملهم فعظهم عليه وانصحهم وابذل قدرتك في ردهم عنه وتوبتهم منه .

وفي صحيح مسلم: " والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كانَ مِن أصْحابِ النَّارِ "

وقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) التوكل هو اعتماد القلب على الله تعالى لجلب منافع ودفع مضار مع ثقته به وحسن ظنه بحصول مطلوبه فإنه عزيزٌ رحيم بعزته يقدر على إيصال الخير ودفع الشر عن عبده وبرحمته به يفعل ذلك .

وقوله: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي يراك في هذه العبادة العظيمة التي هي الصلاة وتقلبك راكعاً وساجداً وخصها بالذكر لفضلها وشرفها ولأن من استحضر فيها قرب ربه خشع وذل وأكملها وبتكميلها يكمل سير عمله ويستعين بها على جميع أموره .

وقوله: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي:السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم .

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ( 221 ) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( 222 ) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ( 223 ) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ( 224 ) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ( 225 ) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ( 226 ) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ 227 .

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ)

يقول تعالى مخاطبًا لِمَنْ زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول ليس حقا، وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه، أو أنه أتاه به رئيّ من الجن، فنـزه الله، سبحانه، جناب رسوله عن قولهم وافترائهم، ونبه أن ما جاء به إنما هو الحق من عند الله، وأنه تنـزيله ووحيه، نـزل به ملك كريم أمين عظيم، وأنه ليس من قَبيل الشياطين، فإنهم ليس لهم رغبة في مثل هذا القرآن العظيم، وإنما ينـزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة؛ ولهذا قال الله: ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ) أي:أخبركم الخبر الحقيقي الذي لا شك فيه ولا شبهة . ( عَلَى مَنْ تَنـزلُ الشَّيَاطِينُ)أي بصفة الأشخاص الذين تنزل عليهم الشياطين ( تَنـزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ) أي الكذابٌ كثير قول الزور،(أَثِيمٍ ) في فعله كثير المعاصي. فهذا هو الذي تنـزل عليه الشياطين كالكهان وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة، فإن الشياطين أيضا كذبة فسقة.

(يُلْقُون)عليهم(السَّمْعَ)الذي يسترقونه من السماء،(وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) يسمعون الكلمة من علم الغيب، فيزيدون معها مائة كذبة، ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس فيتحدثون بها، فيصدقهم الناس في كل ما قالوه، بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء، فعن عائِشَةَ ، رضي اللَّه عَنْهَا ، قَالَتْ: سُئل رسُولَ اللَّه ﷺ أُنَاسٌ عنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ : لَيْسُوا بِشَيءٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، إنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أحْيَانًا بشَيْءٍ فيكُونُ حَقًّا؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: تِلْكَ الْكَلمةُ مِنَ الْحَقِّ يخْطَفُهَا الجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أذُنِ ولِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ معهَا مِئَةَ كَذْبَةٍ " صححه الألباني .

وأما محمد صلى الله عليه وسلم فحاله مباينةٌ لهذه الأحوال أعظم مباينة لأنه الصادق الأمين البار الراشد الذي جمع بين بر القلب وصدق القول ونزاهة الأفعال من المحرم.

والوحي الذي ينزل عليه من عند الله ينزل محروساً محفوظاً مجتمعاً على الصدق العظيم الذي لا شك فيه ولا ريب فلما نزهه عن نزول الشياطين برأه أيضا من الشعر ؛فقال (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ)

(وَالشُّعَرَاءُ)أي هل أُنبئكم أيضاً عن حالة الشعراء ووصفهم الثابت فإنهم ( يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) في البعد عن طريق الهدى فهم المقبلون على طريق الغي والردى وفي أنفسهم غاوون وتجد اتباعهم كل غاو ضالٍ فاسد فشعرهم يقوم على الباطل والكذب ويجاريهم الضالون الزائفون من أمثالهم .

روى الإمام مسلم عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَرْج، إذ عَرَض شاعر يُنشد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «خُذُوا الشَّيْطَانَ، أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا خَيْرٌ له مِن أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا. » .

(أَلَمْ تَرَ) روايتهم وشدة ضلالهم (أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ) من أودية الشعر(يَهِيمُونَ) أنهم يذهبون كالهائم على وجهه يخوضون في كل فن من فنون الكذب والزور وتمزيق الأعراض والطعن في الانساب وتجريح النساء العفائف يبالغون في مدح الباطل وينتقصون أهل الحق فتارة في مدح وتارة في قدح وتارة في صدق وتارة في كذب وتارة يتغزلون وأخرى يسخرون وكرة يمرحون وآونة يحزنون فلا يستقر لهم قرار ولا يثبتون على حال من الأحوال .

( وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ )هذا وصف الشعراء تخالف اقوالهم افعالهم فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق قلت هذا أشد الناس غراماً وقلبه فارغٌ من ذلك وإذا سمعته يمدح أو يذم قلت هذا صدق وهو كذب وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها وكرماً لم يحُم حول ساحته وشجاعة يعلو بها على الفُرسان وتراه اجبن من كل جبان هذا وصفهم فانظر هل يطابق حالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الراشد البار الذي يتبعه كل راشد فهل تناسب حاله حال الشعراء

ولما وصف الشعراء بما وصفهم به استثنى منهم من آمن بالله ورسوله وعمل صالحا .

(إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِستثنى الله من الشعراء الشعراء الذين اهتدوا للإيمان وعملوا الصالحات ( وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا )وأكثروا من ذكر الله فقالوا الشعر في توحيد الله والثناء عليه جل ذكره والدفاع عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والتكلم بالحكمة والموعظة والآداب الحسنة .

( وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) انتصروا للإسلام يهجون من يهجوه أو يهجوا رسوله رداً على الشعراء الكافرين . كما ثبت في صحيح البخاري عن البراء رضي الله عنها قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسَّان :" اهْجُ المشركين فإن جبريلُ معك "

وقوله: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا)ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي وظلموا غيرهم بغمط حقوقهم أو الإعتداء عليهم أو بالتهم الباطلة(أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)أي مرجعٍ من مراجع الشر والهلاك يرجعون إليه

سينقلبون إلى موقف وحساب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا احصاها ولا حقاً إلا استوفاه ،ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اتقوا الظلمَ، فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة » .

تم تفسير سورة الشعراء ، ولله الحمد والمنَّة .

1 - 6 - 1440هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 1 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر