تفسير سورة القصص

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 17 رجب 1439هـ | عدد الزيارات: 1872 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

سورة القصص مكية ، وآياتها 88

روى الإمام أحمد عن معد يكرب قال : " أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا (طسم) المائتين ، فقال : ما هي معي ، ولكن عليكم مَن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم : خَبَّاب بن الأرَت ، قال : فأتينا خَبَّاب بن الأرت ، فقرأها علينا "( صححه أحمد شاكر) .

بسم الله الرحمن الرحيم

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نتلوعَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) .

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة .

وقوله:(تلك) أي:هذه (آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) أي:الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور ، وعلم ما قد كان وما هو كائن .

وقوله:(نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي:نذكر لك الأمر على ما كان عليه ، كأنك تشاهد وكأنك حاضر.

ثم قال:(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ) أي:تكبر وتجبر وطغى ، (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) أي:أصنافا ، قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته.

وقوله:(يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ) يعني : بني إسرائيل ، وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم ، هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العنيد يستعملهم في أخس الأعمال، ويكُدُّهُم ليلا ونهارًا في أشغاله وأشغال رعيته، ويقتل مع هذا أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إهانة لهم واحتقارا، وخوفا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته من أن يوجد منهم غلام، يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه ولهذا قال " وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ " ونريد أن نتفضل على الذين استضعفهم فرعون في الأرض ونجعلهم قادة في الخير ودعاة إليه ونجعلهم يرثون الأرض من بعد هلاك فرعون وقومه.

" وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ " (6) .

وقد فعل تعالى ذلك بهم، أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى، فما نفعه ذلك مع قَدَر الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري، بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القِدَم بأن يكون إهلاك فرعون على يديه، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده، وقتلت بسببه ألوفا من الولدان إنما منشؤه ومرباه على فراشك، وفي دارك، وغذاؤه من طعامك، وأنت تربيه وتدلـله وتتفداه، وحتفك، وهلاكك وهلاك جنودك على يديه، لتعلم أن رب السموات العلا هو القادر الغالب العظيم، العزيز القوي الشديد المحال، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن .

" وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ " (9) .

ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل، خافت القبط أن يُفْني بني إسرائيل فَيَلُون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة فقالوا لفرعون : إنه يوشك - إن استمر هذا الحال - أن يموت شيوخهم، وغلمانهم لا يعيشون ، ونساؤهم لا يمكن أن يَقُمْن بما يقوم به رجالهم من الأعمال ، فيخلص إلينا ذلك فأمر بقتل الولدان عامًا وتركهم عامًا ، فولد هارون ، عليه السلام ، في السنة التي يتركون فيها الولدان ، وولد موسى ، عليه السلام ، في السنة التي يقتلون فيها الولدان ، وكان لفرعون أناس موكلون بذلك ، وقوابل يَدُرْنَ على النساء ، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها ، فإذا كان وقت ولادتها لا يَقْبَلُها إلا نساء القبط، فإذا ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن، وإن ولدت غلامًا دخل أولئك الذبَّاحون، بأيديهم الشفار المرهفة، فقتلوه ومضوا قَبَّحَهُم الله فلما حملت أم موسى به، عليه السلام، لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها، ولم تفطن لها الدايات، ولكن لما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا، وخافت عليه خوفًا شديدًا وأحبته حبًّا زائدًا، وكان موسى، عليه السلام، لا يراه أحد إلا أحبه، فالسعيد من أحبه طبعا وشرعًا ، فلما ضاقت ذرعًا به ألهمت في سرها، وألقي في خلدها، ونفث في روعها، كما قال الله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل، فاتخذت تابوتًا، ومهدَت فيه مهدًا، وجعلت ترضع ولدها، فإذا دخل عليها أحد مِمَّنْ تخاف جعلته في ذلك التابوت، وسيرته في البحر، وربطته بحبل عندها. فلما كان ذات يوم دخل عليها مَنْ تخافه، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وأرسلته في البحر وذهلت عن أن تربطه، فذهب مع الماء واحتمله، حتى مر به على دار فرعون، فالتقطه الجواري فاحتملنه، فذهبن به إلى امرأة فرعون، ولا يدرين ما فيه، وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها؛ ولهذا قال (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) .

وقوله تعالى : (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يعني:أن فرعون لما رآه همَّ بقتله خوفًا من أن يكون من بني إسرائيل فجعلت امرأته آسية بنت مزاحم تُحَاجُّ عنه وتَذب دونه ، وتحببه إلى فرعون ، فقالت:(قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ فقال:أما لك فَنَعَم ، وأما لي فلا ، فكان كذلك، وهداها الله به، وأهلكه الله على يديه .

وقوله:(عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا) ، وقد حصل لها ذلك، وهداها الله به، وأسكنها الجنة بسببه. وقولها: (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) أي:أرادت أن تتخذه ولدًا وتتبناه، وذلك أنه لم يكن لها ولد منه.

وقوله تعالى: (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي:لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه، من الحكمة العظيمة البالغة، والحجة القاطعة.

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) .

يقول تعالى مخبرًا عن فؤاد أم موسى، حين ذهب ولدها في البحر، إنه أصبح فارغًا، أي:من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى.

(إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي:قاربت من شدة وجدها وحزنها وأسفها لَتُظهر أنه ذهب لها ولد، وتخبر بحالها، لولا أن الله ثَبَّتها وصبَّرها، قال الله تعالى: (لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ) أي:أمرت ابنتها - وكانت كبيرة تعي ما يقال لها -فقالت لها:(قُصِّيهِ) أي:اتبعي أثره، وخذي خبره، وتَطَلَّبي شأنه من نواحي البلد فخرجت لذلك فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ،أي أبصرته على وجه لا قصد لها به وهذا من تمام الحزم والحذر فإنها لو أبصرته وجاءت إليهم قاصدة لظنوا بها أنها هي التي القته فربما عزموا على ذبحه عقوبة لأهله.

وذلك أنه لما استقر موسى، عليه السلام، بدار فرعون، وأحبته امرأة الملك، واستطلقته منه، عرضوا عليه المراضع التي في دارهم، فلم يقبل منها ثديًا، وأبى أن يقبل شيئًا من ذلك. فخرجوا به إلى سوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته، فلما رأته بأيديهم عرفته، ولم تظهر ذلك ولم يشعروا بها.

قال الله تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي:تحريمًا قَدَريا، وذلك لكرامة الله له صانه عن أن يرتضع غير ثدي أمه؛ ولأن الله - سبحانه - جعل ذلك سببًا إلى رجوعه إلى أمه، لترضعه وهي آمنة، بعدما كانت خائفة. فلما رأتهم أخته حائرين فيمن يرضعه قالت: ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) .

فذهبوا معها إلى منـزلهم، فدخلوا به على أمه، فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا. وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها، وأعطتها عطاءً جزيلا وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه وافق ثديها. ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه، فأبت عليها وقالت:إن لي بعلا وأولادًا، ولا أقدر على المقام عندك. ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت. فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجْرَتْ عليها النفقة والصلات والأكسية والإحسان الجزيل. فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية، قد أبدلها الله من بعد خوفها أمنا، في عز وجاه ورزق دَارٍّ. فسبحان من بيده الأمر‍‍‍‍‍‍‍‍‍! ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجًا، وبعد كل ضيق مخرجًا. ولهذا قال تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا) أي:به، (وَلا تَحْزَنْ):أي:عليه(وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي:فيما وعدها من رده إليها، وجعله من المرسلين. فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن منه رسول من المرسلين، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعًا وشرعًا.

وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي:حُكْمَ الله في أفعاله وعواقبها المحمودة، التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة، فربما يقع الأمر كريها إلى النفوس، وعاقبته محمودة في نفس الأمر.

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 14 ) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ( 15 ) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 16 ) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ( 17 ) .

قوله:(لما بلغ أشده) من القوة والعقل واللب وذلك نحو أربعين سنة(واستوى) فكملت فيه تلك الامور (آتيناه حكماً وعلماً) أي حكماً يعرف به الأحكام الشرعية ويحكم به بين الناس وعلماً كثيراً وكما جزينا موسى عن طاعته واحسانه نجزي من أحسن من عبادنا ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ).

ثم ذكر تعالى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قَدَّر له من النبوة والتكليم:قضية قتله ذلك القبطي، الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين، فقال:( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا) ودخل موسى المدينة مستخفياً وقت غفلة أهلها .

(فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ ) يتضاربان ويتنازعان ،(هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ) أي:من بني إسرائيل ،(وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) أي:قبطي . فاستغاث الإسرائيلي بموسى، عليه السلام، فعمد موسى إلى القبطي (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) .فضربه بجُمع كفه فمات لشدتها وقوة موسى .فندم موسى عليه السلام على ما جرى منه و(قال هذا من عمل الشيطان)أي من تزيينه ووسوسته.

(إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ولذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة وحرصه على الاضلال ثم استغفر ربه(قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)خصوصاً للمخبتين إليه المبادرين للإنابة والتوبة كما جرى من موسى عليه السلام (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) أي:بما جعلت لي من الجاه والعزة والمنعة ( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا )أي: معينا لأحد على معصيته واجرامه ،( لِلْمُجْرِمِينَ ) أي:الكافرين بك، المخالفين لأمرك.

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ .18 فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِ نْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ 19 .

يقول تعالى مخبرًا عن موسى، عليه السلام ، لما قتل ذلك القبطي:إنه أصبح (فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا) أي:من مَعَرّة ما فعل، (يَتَرَقَّبُ) أي:يتلفت ويتوقع ما يكون من هذا الأمر، فمر في بعض الطرق، فإذا ذاك الذي استنصره بالأمس على ذلك القبطي يقاتل آخر، فلما مر موسى، استصرخه على الآخر، فقال له موسى: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي:ظاهر الغواية كثير الشر. ثم عزم على البطش بذلك القبطي، فاعتقد الإسرائيلي لخوَرِه وضعفه وذلته أن موسى إنما يريد قصده لما سمعه يقول ذلك، فقال يدافع عن نفسه: ( يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ ) وذلك لأنه لم يعلم به إلا هو وموسى، عليه السلام، فلما سمعها ذلك القبطي لقَفَها من فمه، ثم ذهب بها إلى باب فرعون فألقاها عنده، فعلم بذلك، فاشتد حنقه، وعزم على قتل موسى، فطلبوه فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك.

وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ 20 .

قال تعالى: ( وَجَاءَ رَجُلٌ ) وصفه بالرّجُولية لأنه خالف الطريق ، فسلك طريقًا أقرب من طريق الذين بُعثوا وراءه، فسبق إلى موسى، فقال له:يا موسى ( إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ ) أي:يتشاورون فيك ( لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ ) أي:من البلد ( إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) .

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 21 )

لما أخبره ذلك الرجل بما تمالأ عليه فرعون ودولته في أمره، خرج من مصر وحده، ولم يألف ذلك قلبه، بل كان في رفاهية ونعمة ورئاسة، (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) أي:يتلفَّت (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) أي:من فرعون وملئه.

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ) أي قاصداً بوجهه مدين وهو جنوب فلسطين حيث لا ملك فيه لفرعون، (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) أي:إلى الطريق الأقوم. ففعل الله به ذلك، وهداه إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، فجعله هاديًا مهديًّا.(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ) أي:ولما وصل إلى مدين وورد ماءها، وكان لها بئر تَرده رعاء الشاء (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) أي:جماعة (يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ) أي:تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يُؤذَيا. فلما رآهما موسى، عليه السلام، رق لهما ورحمهما، (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا) أي:ما خبركما لا تردان مع هؤلاء؟ (قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) أي:لا يحصل لنا سقي إلا بعد فراغ هؤلاء، (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي:فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى.قال الله تعالى: (فَسَقَى لَهُمَا)

روى ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن موسى، عليه السلام، لما ورد ماء مدين، وجد عليه أمة من الناس يسقون، قال:فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال:ما خطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم. وقوله: ( ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) جلس تحت شجرة( فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنـزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ):أي إني مفتقرٌ للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي.

فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) .

لما رجعت المرأتان سراعا بالغنم إلى أبيهما، أنكر حالهما ومجيئهما سريعا، فسألهما عن خبرهما، فقصتا عليه ما فعل موسى، عليه السلام. فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها قال الله تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) أي:مشي الحرائر، ( قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) ، وهذا تأدب في العبارة، لم تطلبه طلبا مطلقا لئلا يوهم ريبة، بل قالت: ( إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) يعني:ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا ، ( فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ) أي:ذكر له ما كان من أمره، وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده، ( قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) . يقول:طب نفسا وَقرّ عينا، فقد خرجتَ من مملكتهم فلا حُكْم لهم في بلادنا حيث أن بلاد مدين خارج حدود مصر. ولهذا قال:(نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ).

وقوله:(قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أي:قالت إحدى ابنتي هذا الرجل. لأبيها:(يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أي:اجعله أجيراً عندك يرعى الغنم ويسقيها.

( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ )أي إن موسى أولى من استؤجر فإنه جمع القوة والأمانة وخير أجير استؤجر من جمعهما .

القوة على ما استؤجر عليه والأمانة فيه.

وهذان الوصفان ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملاً بإجارة أو غيرها فإن الخلل لايكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما وأما باجتماعهما فإن العمل يتم ويكمل وإنما قالت ذلك لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه ما عرفت به قوته وشاهدت من أمانته وديانته وأنه رحمهما في حالة لا يرجى نفعهما وإنما قصده بذلك وجه الله .

قال: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ) أي:طلب إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن يرعى عنه ويزوجه إحدى ابنتيه هاتين.

وقوله: (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ) أي:على أن ترعى عليّ ثماني سنين، فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك ،( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) أي:لا أشاقك ،ولا أماريك

وقوله تعالى إخبارا عن موسى، عليه السلام: ( قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) ، يقول:إن موسى قال لصهره:الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين، فإن أتممت عشرًا فمن عندي، فمتى فعلت أقلهما فقد برئت من العهد، وخرجت من الشرط؛ ولهذا قال: ( أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ ) أي:فلا حرج علي هذا وقد دل الدليل على أن موسى عليه السلام، إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما.روى البخاري عن سعيد بن جبير قال:سألني يهودي من أهل الحيرة:أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت:لا أدري حتى أقدم على حَبْر العرب فأسأَلَه. فقدمت فسألت ابن عباس، رضي الله عنه، فقال:قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل.

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ( 29 ) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 30 ) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ( 31 ) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 32 ) .

قد تقدم في تفسير الآية قبلها أن موسى عليه السلام، قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما وأنقاهما، وقد يستفاد هذا أيضًا من الآية الكريمة من قوله:(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ) أي:الأكمل منهما وهي العشر سنوات.

وقوله: (وَسَارَ بِأَهْلِهِ):قاصداً مصر (آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) أي:رأى نارا تضيء له على بعد ، (قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا) أي:حتى أذهب إليها ، (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ) . وذلك لأنه قد أضل الطريق ، (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) أي:قطعة منها ، (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي:تَتَدفؤون بها من البرد.

قال الله تعالى: ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ) أي:من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب، كما قال تعالى : وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ ، فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة، والجبل الغربي عن يمينه، فناداه ربه: ( مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ) .

وقوله أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) فأخبر بأُلُوهيته وربوبيته

وقوله: (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ)أي:التي في يدك. والمعنى:أما هذه عصاك التي تعرفها ألقها فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى فعرف وتحقق أن الذي يخاطبه ويكلمه هو الذي يقول للشيء:كن، فيكون.

(فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ) أي:تضطرب (كَأَنَّهَا جَانٌّ ):في حركتها السريعة . فعند ذلك ( وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي:يرجع لإستيلاء الروع على قلبه. فلما قال الله له: (يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ) ، فأقبل موسى عليه السلام غير خائف ولا مرعوب بل مطمئناً واثقاً بخبر ربه قد ازداد إيمانه وتم يقينه ، فهذه آية أراه الله إياها قبل ذهابه إلى فرعون ليكون على يقين تام ويكون أقوى وأصلب،ثم أراه الله الآية الآخرى فقال:

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي:ادخل يدك في فتحة قميصك المفتوحة إلى الصدر وأخرجها تخرج بيضاء ؛ ولهذا قال: (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي:من غير مرض.وقوله: ( وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ):أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك ليزول عنك الخوف.

وقوله: ( فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ ) يعني:إلقاءه العصا وجعلها حية تسعى، وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير مرض- دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار، وصحة نبوة مَنْ جرى هذا الخارق على يديه؛ ولهذا قال: ( إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) أي:أتباعه ، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) أي:خارجين عن طاعة الله، مخالفين لدين الله فلا يكفيهم مجرد الإنذار وأمر الرسول إياهم بل لابد من الآيات الباهرة .

قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) .

لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون، الذي إنما خرج من ديار مصر فرارًا منه وخوفًا من سطوته، ( قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا ) يعني:ذلك القبطي، ( فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) أي:إذا رأوني.

(وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا)أي نطقاً. ( وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) ، أي:وزيرًا ومعينًا ومقويًّا لأمري، يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عز وجل؛ لأن خبر اثنين أنجع في النفوس من خبر واحد؛ ( إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ) يكذبوني في قولي لهم إني أرسلت إليهم فلما سأل ذلك قال الله تعالى:(سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) أي:سنقوي أمرك، ونعز جانبك بأخيك، الذي سألت له أن يكون معك. وقوله تعالى: ( وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا )حجة قاهرة ، (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا) أي:لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب إبلاغكما آيات الله، ،ولهذا أخبرهما أن العاقبة لهما ولِمَنْ اتبعهما في الدنيا والآخرة(أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ)

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) .

يخبر تعالى عن مجيء موسى إلى فرعون وملئه، وعرضه ما آتاه الله من المعجزات الباهرة والدلالات القاهرة، على صدقه فيما أخبر عن الله عز وجل من توحيده واتباع أوامره.

فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه، وأيقنوا أنه من الله، عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد ، وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق، فقالوا على وجه الظلم والعلو والعناد: (مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى) أي:مفتعل مصنوع. وأرادوا معارضته بالحيلة ، وقوله (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ) يعنون:عبادة الله وحده لا شريك له، يقولون:ما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين، ولم نر الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى. فقال موسى، عليه السلام، مجيبا لهم: ( رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ ) يعني:مني ومنكم، وسيفصل بيني وبينكم. ولهذا قال: (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّار ):النصرة والظفر والتأييد،( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) أي:المشركون بالله.

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) .

يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعوى الإلهية لنفسه القبيحة لعنه الله ، وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية، فأجابوه إلى ذلك لقلة عقولهم وسخافة أذهانهم؛ ولهذا قال:يَاأَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي،وقوله: ( فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) أي:أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين، ليتخذ له آجُرّا لبناء الصرح، وهو القصر المنيف الرفيع - وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح الذي لم يُرَ في الدنيا بناء أعلى منه، إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون؛ ولهذا قال: (وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) أي:في قوله إن ثَمّ ربًّا غيري، لا أنه كذبه في أن الله أرسله؛ وقال: (يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) .

وقوله: ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ) أي:طغوا وتجبروا، وأكثروا في الأرض الفساد، واعتقدوا أنه لا معاد ولا قيامة ، ولهذا قال ها هنا: ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ) أي:أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة، فلم يبق منهم أحد (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي:لمن أخذ بطريقتهم، في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع،(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ) أي:فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولا بذل الآخرةوقوله:وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةًأي:وشرع الله لعنتهم ولعنة مَلكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين رسله، وكما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي ويوم القيامة هم من المستقذرة أفعالهم ، المبعدين عن رحمة الله

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)

ولقد أتينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت من قبله كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوله: (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ) أي:من العمى والغي، (وهدى) إلى الحق، (ورحمة) أي:إرشادا إلى الأعمال الصالحة، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي:لعل الناس يتذكرون به، ويهتدون بسببه.

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47).

(وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ) وما كنت أيها الرسول بجانب الجبل الغربي من موسى إذ كلفناه أمرنا ونهينا ، ( وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) لذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك، ليجعله حجة وبرهانًا على قرون قد تطاول عهدها، ونَسُوا حُجَج الله عليهم، وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين.

وقوله: (وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا) أي مقيماً ،( فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ) أي تعلمهم حتى أُخبرت بما أُخبرت من شأن موسى بمدين (ولكنا كنا مرسلين) أي ولكن ذلك الخبر الذي جئت به عن موسى أثر من آثار إرسالنا إياك ووحي لا سبيل لك لعلمه بدون إرسالنا. ( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ) وما كنت أيها الرسول بجانب جبل الطور حين نادينا موسى وأمرناه أن يأتي القوم الظالمين ويبلغهم رسالتنا ويريهم من آياتنا وعجائبنا ما قصصنا عليك.وقوله:(وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي:ما كنت مشاهدًا لشيء من ذلك، ولكن الله أوحاه إليك وأخبرك به، رحمة منه لك وبالعباد بإرسالك إليهم، ( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لعلهم يهتدون بما جئتهم به من الله عز وجل.

( وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي:وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة ولتقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بكفرهم، فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير.

فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

يقول تعالى مخبرًا عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم، لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول:إنهم لما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد، صلوات الله وسلامه عليه قالوا على وجه التعنت والعناد والكفر والجهل والإلحاد: (لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) ، يعنون :من الآيات الكثيرة، مثل العصا واليد، والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وتنقص الزروع والثمار، مما يضيق على أعداء الله، وكفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنـزال المنِّ والسلوى، إلى غير ذلك من الآيات الباهرة، والحجج القاهرة، التي أجراها الله على يدي موسى عليه السلام، حجة وبراهين له على فرعون وملئه وبني إسرائيل، ومع هذا كله لم ينجع في فرعون وملئه، بل كفروا بموسى،( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ )أولم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة. ( قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) تعاونا ،( وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) بكل منهما كافرون. يعنون:التوراة والقرآن؛ لأنه قال بعده: ( قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ ) ، وكثيرًا ما يقرن الله بين التوراة والقرآن، ،ولهذا قال تعالى: ( قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي:فيما تدافعون به الحق وتعارضون به من الباطل.قال الله تعالى: ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ) أي:فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتبعوا الحق ( فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ) أي:بلا دليل ولا حجة ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ) أي:بغير حجة مأخوذة من كتاب الله، (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 51 ) .

وقوله: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي تابعناه وواصلناه وأنزلناه شيئاً فشيء رحمةً بهم ولطفاً (لعلهم يتذكرون) حين تتكرر عليهم آياته وتنزل عليهم بيناته وقت الحاجة إليها فصار نزوله متفرقاً رحمة بهم .

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ( 52 ) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ( 53 ) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 54 ) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ( 55 ) .

( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ)هم أهل التوراة والانجيل الذين لم يبدلو ولم يغيروا(هُمْ بِهِ)أي بهذا القرآن ومن جاء به ( يُؤْمِنُونَ )يصدقون ( وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) يعني:من قبل هذا القرآن كنا مسلمين، أي:موحدين مخلصين لله مستجيبين له.

قال الله: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) أي:هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم بالثاني يؤتون أجرهم مرتين بإيمانهم بالرسول الأول ثم بالثاني ؛ ولهذا قال:( بِمَا صَبَرُوا) أي:على اتباع الحق؛ فإنَّ تجشُّم مثل هذا شديد على النفوس.

عن أبي أمامة قال:إني لتحتَ راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فقال قولا حسنًا جميلا وقال فيما قال: « مَنْ أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا، ومَنْ أسلم من المشركين، فله أجره، وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا (حسنه الألباني)

وقوله ( وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) أي:لا يقابلون السيئ بمثله، ولكن يعفون ويصفحون. ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) أي:ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خَلْق الله في النفقات الواجبة لأهلهم وأقاربهم، والزكاة المفروضة والمستحبة من التطوعات، وصدقات النفل والقربات.وقوله: ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ )من جاهل خاطبهم به أعرضوا عنه (وقالوا) مقالة عباد الرحمن أولي الألباب ( لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) أي:إذا سَفه عليهم سَفيه، وكلمهم بما لا يَليقُ بهم الجوابُ عنه، أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح، ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب. ولهذا قال عنهم:إنهم قالوا: ( لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) أي:لا نُريد طَريق الجاهلين ولا نُحبّها

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 56 ) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 57 ) .

يقول تعالى لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) أي:ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة .فإنه قال: ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي:هو أعلم بِمَنْ يستحق الهداية بِمَنْ يستحق الغِوَاية، وقد ثبت في الصحيحين أنها نـزلت في أبي طالب عَمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يَحوطُه وينصره، ويقوم في صفه ويحبه حبًّا شديدا طبعيًّا لا شرعيًّا، فلما حضرته الوفاة وحان أجله، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فسبق القدر فيه، واختطف من يده، فاستمر على ما كان عليه من الكفر، ولله الحكمة التامة.روى البخاري عن المسيب بن حزن قال:لما حَضَرَتْ وفاةُ أبي طالب أتاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أي عم ، قل:لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله » . فقال:لولا أن تُعَيّرني بها قريش، يقولون:ما حمله عليه إلا جَزَع الموت، لأقرَرْتُ بها عينَك، لا أقولها إلا لأقرَّ بها عينك. فأنـزل الله: ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) . وقوله: ( وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) : يقول تعالى مخبرًا عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) أي:نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى، وخالفنا مَنْ حولنا من أحياء العرب المشركين، أن يقصدونا بالأذى والمحاربة، ويتخطفونا أينما كنا، فقال الله تعالى مجيبا لهم: ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا ) يعني:هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل؛ لأن الله جعلهم في بلد أمين، وحَرَم معظم آمن منذ وُضع، فكيف يكون هذا الحرم آمنًا في حال كفرهم وشركهم، ولا يكون آمنًا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق؟.وقوله: ( يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ) أي:من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره، وكذلك المتاجر والأمتعة رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا أي:من عندنا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فلهذا قالوا ما قالوا.

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ( 58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) .

يقول تعالى مُعَرّضًا بأهل مكة في قوله: ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ) أي:طغت وأشرَت وكفرت نعمة الله ، فيما أنعم به عليهم من الأرزاق، ولهذا قال: ( فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا ) أي:دَثَرت ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم.وقوله: ( وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) أي:رجعت خرابًا ليس فيها أحد.ثم قال الله مخبرًا عن عدله، وأنه لا يهلك أحدًا ظالمًا له، وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم، ولهذا قال: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا ) وهي مكة رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا. فيه دلالة على أن النبي الأمي، وهو محمد، صلوات الله وسلامه عليه ، المبعوث من أم القرى، رسول إلى جميع القرى، من عرب وعجم، . فأخبر أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة، . فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى؛ لأنه مبعوث إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها. وثبت في الصحيحين عنه، صلوات الله وسلامه عليه ، أنه قال: « بعثت إلى الأحمر والأسود » . ولهذا ختم به الرسالة والنبوة، فلا نبي بعده ولا رسول، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة..

وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)

يقول تعالى مخبرًا عن حقارة الدنيا ، وما فيها من الزينة الدنيئة والزهرة الفانية بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة من النعيم العظيم المقيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والله ما الدنيا في الآخرة، إلا كما يَغْمِس أحدكم إصبعه في اليم، فَلْينظُر ماذا يرجع إليه »رواه البخاري .وقوله : ( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) أي:أفلا يعقل مَنْ يقدم الدنيا على الآخرة؟.وقوله: ( أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أفمن هو مؤمن مصدق بما وعده الله على صالح أعماله من الثواب الذي هو صائر إليه لا محالة، كمَنْ هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده، فهو ممتع في الحياة الدنيا أيامًا قلائل، ( ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) للحساب وقد علم أنه لم يقدم خيراً لنفسه وإنما قدم جميع ما يضره وانتقل إلى دار الأعمال.

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ 62 قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ( 63 ) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ( 64 ) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ( 65 ) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ( 66 ) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ( 67 ) .

يقول تعالى مخبرًا عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة، حيث يناديهم فيقول: ( أَيْنَ شُرَكَائي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) يعني:أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا، من الأصنام والأنداد، هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ وهذا على سبيل التقريع والتهديد، .

وقوله: ( قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) من الشياطين والمَرَدَة والدعاة إلى الكفر، ( رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) ، فشهدوا عليهم أنهم أغووهم فاتبعوهم، ثم تبرؤوا من عبادتهم، ، ولهذا قال:(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ) أي :ليخلصوكم مما أنتم فيه، كما كنتم ترجون منهم في الدار الدنيا، (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ) أي:وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة.وقوله:(لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) أي: لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا. وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) :النداء الأول عن سؤال التوحيد، وهذا فيه إثبات النبوات:ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم؟ وكيف كان حالكم معهم؟ وهذا كما يُسأل العبد في قبره:مَنْ ربك؟ ومَنْ نبيك؟ وما دينك ؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبد الله ورسوله. وأما الكافر فيقول:هاه، هاه لا أدري ؛ ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكوت؛ لأن مَنْ كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ولهذا قال تعالى: ( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ) فخفيت عليهم الحجج فلم يعلموا ما يحتجون به فهم لا يسئل بعضهم بعضا عما يحتجون به سؤال انتفاع ولم يهتدوا إلى الصواب .وقوله: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا) أي:في الدنيا، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي:يوم القيامة، وعسى من الله موجبة، فإن هذا واقع بفضل الله ومَنّه لا محالة.

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 68 ) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 69 ) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 70 .

يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب فقال: ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ) أي:ما يشاء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده، ومرجعها إليه.وقوله: ( مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) نافية . ولهذا قال: ( سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أي:من الأصنام والأنداد، التي لا تخلق ولا تختار شيئًا.ثم قال: ( وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ) أي:يعلم ما تكن الضمائر، وما تنطوي عليه السرائر، كما يعلم ما تبديه الظواهر من سائر الخلائق .وقوله: (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) أي:هو المنفرد بالإلهية، فلا معبود سواه، كما لا رب يخلق ويختار سواه لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ) أي:في جميع ما يفعله هو المحمود عليه، لعدله وحكمته ( وَلَهُ الْحُكْمُ ) أي:الذي لا معقب له، لقهره وغلبته وحكمته ورحمته ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي:جميعكم يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله، من خير وشر، ولا يخفى عليه منهم خافية في سائر الأعمال.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) .

يقول تعالى ممتنًا على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار، اللذين لا قوَامَ لهم بدونهما. وبين أنه لو جعلَ الليلَ دائمًا عليهم سرمدًا إلى يوم القيامة، لأضرّ ذلك بهم، ولسئمته النفوس وانحصرت منه، ولهذا قال تعالى: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ) أي:تبصرون به وتستأنسون بسببه، (أَفَلا تَسْمَعُونَ).

ثم أخبر أنه لو جعل النهار سرمدًا دائمًا مستمرًّا إلى يوم القيامة، لأضرَّ ذلك بهم، ولتعبت الأبدان وكلَّت من كثرة الحركات والأشغال؛ ولهذا قال:(مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) أي:تستريحون من حركاتكم وأشغالكم . (أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ) بكم (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) أي:خلق هذا وهذا (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي:في الليل ،(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)أي:في النهار بالأسفار والترحال، والحركات والأشغال، وهذا من باب اللف والنشر.وقوله: (وَلَعلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي:تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل والنهار، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار، أو بالنهار استدركه بالليل.

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ 74 وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75).

وهذا أيضا نداء ثان على سبيل التقريع والتوبيخ لِمَنْ عبد مع الله إلهًا آخر، يناديهم الرب - تبارك وتعالى - على رؤوس الأشهاد فيقول: ( أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) أي:في الدار الدنيا.( وَنـزعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ)الأمم المكذبة (شَهِيدًا )يشهد على ما جرى في الدنيا من شركهم واعتقادهم ( فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء، (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّه)أي:لا إله غيره،(وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي:ذهبوا فلم ينفعوهم.

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 77)

(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى)أي من بني إسرائيل الذين فضلوا على العالمين وفاقوهم في زمانهم وامتن الله عليهم بما امتن به وكانت حالهم مناسبة للإستقامة ولكن قارون هذا انحرف عن سبيل قومه(فبغى عليهم) وطغى بما أوتيه من الأمور العظيمة المطغية.وقوله: ( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ ) أي:من الأموال ( مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) أي:لَيُثقلُ حملُها الفئامَ من الناس لكثرتها.وقوله: ( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) أي:وعظه فيما هو فيه صالح قومه، فقالوا على سبيل النصح والإرشاد:لا تبطر بما أنت فيه من الأموال ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) البطرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.وقوله: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أي:استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة.(وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)أي:مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فآت كل ذي حق حقه.(وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) أي:أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك ( وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ) أي:لا تكنْ همتك بما أنت فيه أن تفسد به الأرض وتسيء إلى خلق الله (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) سيجازيهم على سوء صنيعهم

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ( 78 ) .

يقول تعالى مخبرًا عن جواب قارون لقومه، حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) إنما أعطيتُ هذه الكنوز بما عندي من العلم والقدرة.

(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) أي:قد كان من هو أكثر منه مالا، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم؛ ولهذا قال:(وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)أي:لكثرة ذنوبهم

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ (80)

يقول تعالى مخبرًا عن قارون:أنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة، وتجمل باهر، من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه، فلما رآه مَنْ يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زُخرفها وزينتها، تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي، قالوا: ( يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) أي:ذو حظ وافر من الدنيا. فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا لهم: ( وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ) أي:جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون.كما في الصحيحين :يقول الله تعالى:أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وقوله: (وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ) :الذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله وعن معصيته وعلى أقداره المؤلمة وصبروا على جواذب الدنيا وشهواتها أن تشغلهم عن ربهم وأن تحول بينهم وما خلقوا له .

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته، وفخره على قومه وبغيه عليهم، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض، جزاءً من جنس عمله، فكما رفع نفسه على عباد الله أنزله الله أسفل سافلين، ففي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:بينا رجل يجر إزاره إذ خُسف به ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ، وقوله: (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) أي:ما أغنى عنه مالُه، وما جَمَعه، ولا خدمه ولا حشمه. ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله به ، ولا كان هو في نفسه منتصرًا لنفسه، فلا ناصر له لا من نفسه، ولا من غيره.وقوله تعالى: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ) أي:الذين لما رأوه في زينته قالوا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ، فلما خسف به أصبحوا يقولون:(وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ) أي:ليس المال بدالّ على رضا الله عن صاحبه وعن عباده ؛ فإن الله يعطي ويمنع، ويضيق ويوسع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة والحجة البالغة. وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود: « إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب » صححه أحمد شاكر. ولولا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا أي:لولا لُطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا، كما خسف به، لأنا وَددْنا أن نكون مثله. (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)أي لا فلاح لهم في الدنيا ولا في الآخرة

تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولايزول،جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين، الذين لا يريدون علوًّا في الأرض، أي:ترفعًا على خلق الله وتعاظمًا عليهم ، ولا فسادًا فيهم.وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمّل فهذا لا بأس به وقال:(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ) الحسنة اسم جنس يشمل جميع ما أمر الله به ورسوله من الأقوال الظاهرة والباطنة المتعلقة بحقه تعالى وحقوق العباد فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا أي أعظم وأجل.ثم قال: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ)وهي كل ما نهى الشارع عنه نهي تحريم( فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) كقوله تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون).

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

(إن الذي فرض عليك القرآنَ) أي نزله وفرض فيه الأحكام وبين فيه الحلال والحرام وأمرك بتبليغه للعالمين والدعوة لأحكامه جميع المكلفين ،(لرادُكَ إلى معاد ) لابد أن يردك إلى معاد يجازى فيه المحسنون بإحسانهم والمسيؤون بمعصيتهم.

وقوله: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) قل - لِمَنْ خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومَنْ تبعهم على كفرهم :ربي أعلم بالمهتدي مني ومنكم، وستعلمون لمن تكون له عاقبة الدارين .

ثم قال تعالى مذكِّرًا لنبيه نعمته العظيمة عليه وعلى العباد إذ أرسله إليهم: ( وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ ) أي:لم تكن متحرياً نزول هذا الكتاب عليك ( إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) أي:إنما نـزل الوحي عليك من الله رحمةً بك وبالعباد ، (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ) أي :معيناً لهم على ما هو من شعب كفرهم.

(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنـزلَتْ إِلَيْكَ) أي:لا تتأثر لمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقك ولا تلوي على ذلك ولا تباله؛ فإن الله مُعْلٍ كلمتك، ومؤيدٌ دينك، ومظهر ما أرسلت به على سائر الأديان؛ ولهذا قال: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ) أي:إلى عبادة ربك وحده لا شريك له، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لا في شركهم ولا في فروعه وشعبه التي هي جميع المعاصي . وقوله: ( وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)أي:اخلص لله عبادتك فإنه (لا إِلَهَ إِلا هُوَ)فلا أحد يستحق أن يحب ويؤلّه إلا الله الكامل الباقي الذي (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ) :الدائم الباقي الحي القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت فعبر بالوحه عن الذات فكل شيء سواه هالكاً مضمحلاً .

وقد ثبت في صحيح البخاري، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:» ألا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلٌ

وقوله: (لَهُ الْحُكْمُ) أي:الملك والتصرف، ولا معقب لحكمه، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي:يوم معادكم، فيجزيكم بأعمالكم، إن كان خيرا فخير، وإن شرا فشر.

تم تفسير سورة القصص ولله الحمد والمنة.

16 - 7 - 1439هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 1 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر