الدرس 169 :باب الضمان

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 28 جمادى الآخرة 1439هـ | عدد الزيارات: 1526 القسم: شرح زاد المستقنع -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الصادق الآمين خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أما بعد:

تحدثنا في الدرس الماضي عن الضمان وقلنا أنه النوع الثاني من أنواع عقود التوثقة ،ثم عرّفنا الضمان لغةً وشرعاً ،ثم ذكرنا شروط الضمان ،ثم ضربنا الأمثلة على إيضاح ذلك ،وتوقفنا عند قوله :


(ويصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم )وهذا جائز ومنه ما يعرف عند الفقهاء بضمان السوق بأن يلتزم الإنسان بضمان كل ما يجب على هذا المضمون في معاملته في هذا السوق ،مثلاً سوق الماشية ، فكل معاملة تجري في سوق الماشية فأنا ضامن لهذا الرجل فهذا يجوز مع انه مجهول غير أنه ينبغي أن يحدد مقدار الدين وأن يحدد الرجل الذي يريد أن يستدين منه لأنه إذا لم يحدد وضمن في حدود خمسة آلاف فيمكن أن يقف على أحد الحظائر وهو مجمع البهيمة ويقول هذا الضمان بخمسة آلاف فيشتري بخمسة ثم يذهب إلى حظيرة أخرى ويشتري بخمسة آلاف ويقول هذا الضمان إلا إذا قال متى قدمت هذه الوثيقة واشتريت ما ضمنته لك فليكتب في آخرها انتهى مقدار المضمون .

فلا بأس وإلا فيمكن أن يتلاعب المستدين والدليل على صحة ضمان المجهول إذا آل إلى العلم قوله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم)يوسف 72

وحمل البعير غير معلوم قد يزيد وقد ينقص وإن كان الغالب أنه معلوم

والضمان عقد تبرع وليس عقد معاوضة وعقد التبرع يسامح فيه ما لا يسامح في عقد المعاوضة ،ولهذا جازت الجعالة مع أن العمل فيها مجهول ،لأنها تبرع

وعُلم من قوله :إذا آل إلى العلم :أنه إذا لم يؤل إلى العلم فإنه لا يجوز كضمان متلفات لشخص لا يدري ما هي

مثاله :أتلف إنسان متلفات عظيمة فقيل له ما هي قال لا يحضرني فلا أدري تساوي مئة ألف أو ألف ولا يمكن أن نعلم بها فهذا مجهول لا يمكن العلم به فلا يصح ضمانه لأن الضامن لا يدري ماذا يؤدي حتى لو جاءه من أتلف له هذه المتلفات وقال أنا أطالب فقيل له حدد وعين فلا بد أن يكون هذا المجهول مآله إلى العلم

قوله :والعواري :جمع عارية ،وهي إباحة نفع العين لمن ينتفع بها ويردها

مثاله :جاء إنسان يستعير سيارة من شخص ليسافر بها إلى الخرج فقال صاحب السيارة أنا أريد ضماناً يضمن السيارة لي قال هذا فلان يضمن فيصح

لأن العارية مضمونة فإذا كانت مضمونة صارت آبلة إلى وجوب الضمان

فالمذهب أن العارية مضمونة بكل حال ،والصحيح أن العارية لا تُضمن إلا بتعد أو تفريط

قوله :والمغصوب :وهو ما أخذ من صاحبه قهراً منه بغير حق فضمان المغصوب صحيح

مثاله :إنسان غصب آخر حقيبة وأخذها قهراً منه وهرب ،فوجده صاحب الحقيبة وطالب بها فتقدم رجل فضمن الحقيبة والغاصب ضامن على كل حال

قوله :والمقبوض بسوم :أي يصح أيضاً ضمان المقبوض بسوم ،وله صور :

الصورة الأولى أن يساومه ويقطع الثمن

مثاله :أن يقف الإنسان على صاحب محل ويقول هذه السلعة اشتريتها منك الآن بتسعين ريال وسأذهب إلى أهلي أريهم إياها إن وافقوا أخذتها وإلا رددتها عليك،فقال صاحب الدكان أنا لا أعرفك فتقدم رجل وقال أعطه إياها وأنا ضامن فقال لا بأس فأخذها الذي سامها ليذهب بها إلى أهله فتلفت السلعة فهي مضمونة على كل حال

والصحيح أنه لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط ووجه ذلك أن هذا المقبوض حصل بيد السائم بإذن مالكه فيده يد أمانة

الصورة الثانية :أن يساومه بدون قطع الثمن

مثل أن يساومه ولكن لم يرض بالسوم فقال أعطني أذهب به إلى أهلي إذا رضوا أتيت إليك وزدتك واشتريت فهذا الضمن على المذهب لأنه إذا قبضه بعد المساومة صار مضموناً عليه والصحيح أنه لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط فهو قد أخذه من صاحبه باختياره فصار المال بيده بإذن مالكة فهو أمين والأمين لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط

الصورة الثالثة :أن يقبضه قبل أن يساومه فقال أعطني هذا أريه أهلي إذا رضوا اشتريته منك فهذا مقبوض بلا مساومة فلا يصح ضمانه لأن الضمان فيما يجب

والفرق بين التعدي والتفريط أن التعدي فعل ما لا يجوز والتفريط ترك ما يجب

قوله (وعهدة مبيع ):وذلك أن البائع إذا باع الشيء فقد تعهد بأن هذا البيع صحيح ،وأن المال ملكه ،وما أشبه ذلك وإذا اشتراه فقد تعهد بإقباضه الثمن وتسليمه

مثاله :قال عمرو لزيد بعني سيارتك الجيب بسيارتي الداتسون ،فالثمن السيارة الداتسون لكن من يضمن لي عهدة السيارة الجيب فإني أخشى أنها مسروقة فيضمن لي القيمة فهذا عهدة المبيع للمشتري

فقال زيد أنا أخشى أن الداتسون مسروقة فأطلب أحداً يضمن العهدة فهذا يصح ،لأنه لو ظهر الثمن مستحقاً لكان الذي دفعه واجباً عليه أن يضمن فصار ضمانه جائزاً

قوله (لا ضمان الأمانات ):أي لا يصح ضمان الأمانات وهي كل عين بيدك بإذن من الشرع أو إذن من المالك ولا ضمان فيها إلا بتعد أو تفريط

فلا يصح ضمانها لأن الأصل غير ضامن وإذا كان الأصل غير ضامن فلا يصح أن يبنى على شيء لم يثبت فلم يضمن الفرع

قوله (بل التعدي فيها) :التعدي فيها يصح ضمانه لأنه إذا تعدى الأمين انتفت عنه الأمانة وصار ضامنا بكل حال

مثاله : رجل أودع عند آخر وديعة ثم بعد أن أودعه صار عنده إشكال فتقدم رجل آخر وقال أنا أضمن لك الوديعة

فالضمان هنا لا يصح لأن الأصل غير ضامن لكن لو قال أنا أضمن لك إن تعدى أو فرط فهذا صحيح ،ولو قضى الضامن الدين فإنه يرجع على المضمون عنه لأنه هو الأصل إذ لا يمكن أن تجعل الضامن يخسر ولا يُعوض إلا أن ينوي التبرع فلا يرجع لكن لو أوفى ولم يطرأ على باله نية الرجوع أو عدمها فعلى المذهب لا يرجع و الصحيح أنه يرجع لأنه إنما التزمها فرعاً عن أصل.

ه

قال العلماء :وهكذا كل من أدى عن غيره ديناً واجباً فإنه يرجع إن نوى الرجوع ولو بغير إذنه

إلا إذا كان الدين مما تشترط فيه نية المدين فإنه لا يرجع إلا بإذن مثل الزكاة أو الكفارة لأن الذي عليه الزكاة لم ينو ولم يوكل

مثاله :جاء رجل و قال أنا سأذهب إلى المجاهدين أعطوني دراهم من الزكاة وكنت أعلم أن صديقي عمرو عنده زكاة كثيرة فأعطيت هذا الرجل خمسين ألفاً على أنها زكاة صديقي عمرو عند ذلك لا يحق لي الرجوع لأن الزكاة تجب فيها النية ،وهنا الذي عليه الزكاة لم ينو وأما الخمسون ألفاً فلا تذهب بل عند الله وفيها أجر وتكون صدقة للذي بذلها

لكن لو أخبرته وقلت إنني دفعت عنك زكاة فقال جزاك الله خيراً وأنا مجيز لك هذا التصرف فالمذهب لا يجزئ لعدم وجود النية حين الدفع والصحيح جواز ذلك ،والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضى الله عنه في قصة حفظه التمر وهو وكيل للرسول صلى الله عليه وسلم على صدقة الفطر يحفظها

فعن أبي هريرة قال " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت والله لأرفعنك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال: فخليت عنه فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة قال قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيال فرحمته فخليت سبيله قال: أما انه قد كذبك وسيعود فعرفت انه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود. فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك فقلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيال فرحمته فخليت سبيله قال أما انه قد كذبك وسيعود فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه آخر ثلاث مرات أنك تزعم ألا تعود ثم تعود قال دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت ما هي قال إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ..) (البقرة:255) حتى تختم الآية لايزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة فقلت يا رسول الله زعم انه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال ما هي قلت: قال لي إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ..) وقال لي لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شي على الخير فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما انه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة قال : لا قال : ذاك الشيطان "
هذا الحديث أخرجه البخاري رحمه الله تعالى، معلقاً بصيغة الجزم

فأبو هريرة رضي الله عنه حين دفع من الزكاة لم يدفع بإذن الرسول لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أجازه ،فالإنسان لو دفع عن غيره زكاة وأجازه الغير جاز ذلك

وبالله التوفيق

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

27/6/1439 هـــ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 1 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر