تفسير سورة الروم

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 11 جمادى الآخرة 1439هـ | عدد الزيارات: 1589 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

سورة الروم مكية وآياتها 60

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (5) وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون (6) يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (7)

روى الإمام أحمد عن ابن عباس ، رضي الله عنهما، في قوله تعالى: (الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض) قال: غلبت وغلبت قال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم؛ لأنهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذُكر ذلك لأبي بكر، ، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما إنهم سيغلِبون » فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل أجلا خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: « ألا جعلتها إلى دون » أراه قال:« العشر » قال سعيد بن جبير: البضع ما دون العشر ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله: (الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) (صححه أحمد شاكر)

وعن مسروق، قال: قال عبد الله بن مسعود: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم. (رواه البخاري ومسلم)

فقوله تعالى:(الم) قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور،(غلبت الروم) كانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم حين غَلبت الروم بين أذرعات وبُصرى، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحرمين، وقوله: (لله الأمر من قبلُ ومن بعد) أي: من قبل ذلك ومن بعده، فبني على الضم لما قطع المضاف، وهو قوله: (قبل) عن الإضافة، ونويت (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) أي: للروم أصحاب قيصر ملك الشام، على فارس أصحاب كسرى، وهم المجوس وكان نصرة الروم على فارس عام الحديبية؛ وحين كان قيصر ببيت المقدس وافاه كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه مع دَحية بن خليفة فأعطاه دَحية لعظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر فلما وصل إليه سأل من بالشام من عرب الحجاز، فأُحضر له أبو سفيان صخر بن حرب الأموي في جماعة من كفار قريش كانوا في غزة، فجيء بهم إليه، فجلسوا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا فقال لأصحابه - وأجلسهم خلفه -: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذب فكذبوه فقال أبو سفيان: فوالله لولا أن يأثروا علي الكذب لكذبت فسأله هرقل عن نسبه وصفته، فكان فيما سأله أن قال: فهل يغدر؟ قال: قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها - يعني بذلك الهدنة التي كانت قد وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار قريش يوم الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين، فاستدلوا بهذا على أن نصر الروم على فارس كان عام الحديبية؛ لأن قيصر إنما وفَّى بنذره بعد الحديبية .

ولما انتصرت فارسُ على الروم ساء ذلك المؤمنين، فلما انتصرت الروم على فارس فرح المؤمنون بذلك؛ لأن الروم أهل كتاب في الجملة، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس، (ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) وقوله: (وهو العزيز) أي: في انتصاره وانتقامه من أعدائه، (الرحيم) بعباده المؤمنينوقوله: (وعد الله لا يخلف الله وعده) أي: هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس، وعد من الله حق، وخبر صدق لا يخلف، ولا بد من كونه ووقوعه؛ لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلتين إلى الحق، ويجعل لها العاقبة، (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي: بحكم الله في كونه وأفعاله المحكمة الجارية على وفق العدلوقوله: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) أي: أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة

أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون (8) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (9) ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون (10)

يقول تعالى منبها على التفكر في مخلوقاته، الدالة على وجوده وانفراده بخلقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، فقال: (أولم يتفكروا في أنفسهم) يعني به: النظر والتدبروالتأمل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي والسفلي، وما بينهما من المخلوقات المتنوعة، والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خلقت سدى، بل بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة؛ ولهذا قال: (وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون)

ثم نبههم على صدق رسله فيما جاءوا به عنه، بما أيدهم به من المعجزات، والدلائل الواضحات، من إهلاك من كفر بهم، ونجاة من صدقهم، فقال: (أولم يسيروا في الأرض) أي: بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماعهم أخبار الماضين؛ ولهذا قال: (فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة) أي: كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم وأكثر أموالا وأولادا، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومكنوا في الدنيا تمكينا لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعمارا طوالا فعمروها أكثر منكم واستغلوها أكثر من استغلالكم، ومع هذا لما جاءتهم رسلهم بالبينات، أخذهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق، ولا حالت أموالهم ولا أولادهم بينهم وبين بأس الله، ولا دفعوا عنهم مثقال ذرة، وما كان الله ليظلمهم فيما أحل بهم من العذاب والنكال (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي: وإنما أوتوا من أنفسهم حيث كذبوا بآيات الله، واستهزؤوا بها، وما ذاك إلا بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدم؛ ولهذا قال: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا) أي: المسيئين (السوءى) أي: الحالة السيئة الشنيعة، وصار ذلك داعيا لهم إلى (أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون) فهذا عقوبة إسائتهم وذنوبهم، ثم ذلك الاستهزاء والتكذيب يكون سبباً لأعظم العقوبات وأعضل المثلات

الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون (11) ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون (12) ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين (13) ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون (14) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون (15) وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون (16)

يقول تعالى: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده) أي: كما هو قادر على بداءته فهو قادر على إعادته، (ثم إليه ترجعون) ، أي: يوم القيامة فيجازي كل عامل بعملهثم قال: (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) أي: ييأسون من كل خير(ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء) أي: ما شفعت فيهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون اللهثم قال: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) إذا رفع هذا إلى عليين، وخفض هذا إلى أسفل السافلين، فذاك آخر العهد بينهما ؛ ولهذا قال: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون) أي: ينعمون بالمآكل اللذيذة واِلأشربة والحور الحسان والخدم والولدان والمناظر العجيبة والروائح الطيبة والفرح والسرور واللذة والحبور، مما لا يقدر أحد أن يصفه.

فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون (17) وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون (18) يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون (19)

هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة، وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده، في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه: عند المساء، وهو إقبال الليل بظلامه، وعند الصباح، وهو إسفار النهار عن ضيائه ، ثم قال: (وله الحمد في السماوات والأرض) أي: هو المحمود على ما خلق في السماوات والأرضثم قال: (وعشيا وحين تظهرون) فالعشاء هو: شدة الظلام، والإظهار: قوة الضياء فسبحان خالق هذا وقوله: (ويحيي الأرض بعد موتها) ، (وكذلك تخرجون)

ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)

يقول تعالى: (ومن آياته) الدالة على عظمته وكمال قدرته أنه خلق أباكم آدم من تراب، (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) ، فأصلكم من تراب، ثم من ماء مهين، ثم تصور فكان علقة، ثم مضغة، ثم صار عظاما، شكله على شكل الإنسان، ثم كسا الله تلك العظام لحما، ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو سميع بصير ثم خرج من بطن أمه صغيرا ضعيف القوى والحركة، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون، ويسافر في أقطار الأقاليم، ويركب متن البحور، ويدور أقطار الأرض ويتكسب ويجمع الأموال، وله فكرة، ودهاء ومكر، ورأي وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة كل بحسبه فسبحان من أقدرهم وسيرهم وسخرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب، وفاوت بينهم في العلوم والفكرة، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة؛ ولهذا قال تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون)

وقوله: (ومن آياته) الدالة على رحمته وعنايته بعباده وحكمته العظيمة وعلمه المحيط (أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا) أي: خلق لكم من جنسكم إناثا يكن لكم أزواجا، (لتسكنوا إليها) ولو أنه جعل بني آدم كلهم ذكورا وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم إما من جان أو حيوان، لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم، وجعل بينهم وبينهن مودة: وهي المحبة، ورحمة: وهي الرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمة بها، بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما، وغير ذلك، (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) يُعملون أفكارهم ويتدبرون آيات الله

ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (22) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (23)

يقول تعالى: (ومن آيات) الدالة على قدرته العظيمة (خلق السماوات والأرض) أي: خلق السماوات في ارتفاعها واتساعها، وزهارة كواكبها ونجومها الثوابت والسيارات، والأرض في انخفاضها وكثافتها وما فيها من جبال وأودية، وبحار وقفار، وحيوان وأشجار

وقوله: (واختلاف ألسنتكم) على كثرتكم وتباينكم مع أن الأصل واحد ومخارج الحروف واحدة، ومع ذلك لا تجد صوتين متفقين من كل وجه، إلا وتجد من الفرق بين ذلك، ما به يحصل التمييز، وأيضا اللغات، فهؤلاء بلغة العرب، وهؤلاء بلغة الفرس، وهؤلاء روم، وهؤلاء بربر، وهؤلاء حبشة، وهؤلاء هنود، وهؤلاء أرمن، وهؤلاء أكراد، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله من اختلاف بني آدم (وألوانكم) أبيض وأحمر وأسود، كما أن جميع أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة: كل له عينان وحاجبان، وأنف وجبين، وفم وخدان وليس يشبه واحد منهم الآخر، بل لا بد أن يفارقه بشيء من الهيئة، ظاهرا كان أو خفيا، يظهر عند التأمل، كل وجه منهم له هيئة لا تشبه الأخرى (إن في ذلك لآيات للعالمين) أي: أن هذا دال على كمال قدرته ونفوذ مشيئته، ومن عنايته بعباده ورحمته بهم أن قدر ذلك الاختلاف، لئلا يقع التشابه فيحصل اضطراب، ويفوت كثير من المقاصد والمطالب

(ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله) حكمته اقتضت سكون الخلق في وقت ليستريحوا ويستجموا، وانتشارهم في وقت لمصالحهم الدينية والدنيوية (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) أي: سماع تدبر وتعقل للمعاني والآيات في ذلك

ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (24) ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون (25)

يقول تعالى: (ومن آياته) الدالة على عظمته أنه (يريكم البرق خوفا وطمعا) أن ينزل عليكم المطر الذي تحيا به البلاد والعباد ويريكم قبل نزوله مقدماته من الرعد والبرق الذي يُخاف ويُطمع فيه ولهذا قال (وينـزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها) أي: بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء، فلما جاءها الماء أنبتت ،وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة على المعاد وقيام الساعة؛ ولهذا قال: (إن في ذلك لآيات) دالة على عموم إحسانه وسعة علمه وكمال إتقانه وعظيم حكمته (لقوم يعقلون) أي: لهم عقول تعقل بها ما تسمعه وتراه وتحفظه وتستدل به، على ما جعل دليلاً عليه ثم قال: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره)أي: هي قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها، ثم إذا كان يوم القيامة بدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى ودعائه إياهم؛ ولهذا قال: (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون).

وله من في السماوات والأرض كل له قانتون (26) وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (27)

يقول تعالى: (وله من في السماوات والأرض) أي: ملكه وعبيده، (كل له قانتون) أي: خاضعون خاشعون طوعا وكره اوقوله: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو) أي: إعادة الخلق بعد موتهم (أهون عليه) من ابتداء خلقهم، وهذا بالنسبة إلى الأذهان والعقول، فإذا كان قادراً على الابتداء الذي تقرون به، كانت قدرته على الإعادة التي هي أهون أولى وأولى .وروى البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله: كذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد وقوله: (وله المثل الأعلى في السماوات والأرض) وله كل صفة كمال، والكمال من تلك الصفة، فالمثل الأعلى هو وصفه الأعلى وما ترتب عليه، فأهل العلم يستعملون في حق الباري قياس الأولى، فيقولون كل صفة كمال في المخلوقات فخالقها أحق بالاتصاف بها، على وجه لا يشاركه فيها أحد، وكل نقص في المخلوق، ينزه عنه، فتنزيه الخالق عنه من باب أولى وأحرى(وهو العزيز) الذي لا يغالب ولا يمانع، فقد غلب كل شيء، وقهر كل شيء بقدرته وسلطانه، (الحكيم) في أفعاله وأقواله، شرعا وقدرا

ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون (28) بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين (29)

هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له وملك له، كما كانوا في تلبيتهم يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك فقال تعالى: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم) أي: تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم ، (هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء) أي: لا يرتضي أحد منكم أن يكون عبده شريكا له في ماله، فهو وهو فيه على السواء (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) أي: تخافون أن يقاسموكم الأموال، فمملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك، وليس له ذاك، كذلك الله لا شريك له فإن أحدكم يأنف من ذلك، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه

ولما كان التنبيه بهذا المثل على براءته تعالى ونـزاهته بطريق الأولى والأحرى، قال: (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون) ثم قال تعالى مبينا أن المشركين إنما عبدوا غيره سفها من أنفسهم وجهلا (بل اتبع الذين ظلموا) أي: المشركون (أهواءهم) أي: في عبادتهم الأنداد بغير علم ، (فمن يهدي من أضل الله) أي: فلا أحد يهديهم إذا كتب الله إضلالهم، (وما لهم من ناصرين) أي: ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير، ولا محيد لهم عنه؛ لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فأمره بعد الكاف والنون

فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30) منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين (31) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون (32)

يقول تعالى (فأقم وجهك) أي: وجهه (للدين) الذي شرعه الله لك، بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة، كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها، وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد الله فيها كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وخص الله إقامة الوجه، لأن إقبال الوجه تبع لإقبال القلب، ويترتب على الأمرين، سعي البدن، ولهذا قال (حنيفا) أي: مقبلاً على الله في ذلك، معرضاً عما سواه، وفي الحديث الذي رواه مسلم (إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم) وهذا الأمر الذي أمرناك به هو (فطرة الله التي فطر الناس عليها) ووضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها (لا تبديل لخلق الله) أي: لا أحد يبدل خلق الله، فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه الله، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء) ؟ ثم يقول: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) رواه مسلم

وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين، فقال (الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم)

وعن عياض بن حَمَار المجاشعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ذات يوم في خطبته: ( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا، كل مال نحلْته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمَت عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشا، فقلت: رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، قال: وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال، قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبر له، الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا، والخائن الذي لا يَخفى له طمع، وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك " ، وذكر البخل أو الكذب والشنظيرالفحاش. (رواه مسلم)

(ذلك) الذي أمرناك به (الدين القيم) أي: الطريق المستقيم، الموصل إلى الله وإلى دار كرامته، فإن من أقام وجهه للدين حنيفا، فإنه سالك الصراط المستقيم، في جميع شرائعه وطرقه (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فلا يتعرفون الدين القيم، وإن عرفوه لم يسلكوه

وقوله: (منيبين إليه) الإنابة هي الرجوع، وهي تفسير لإقامة الوجه للدين، فإن الإنابة إنابة القلب وانجذاب دواعيه لمراضي الله تعالى، ويلزم من ذلك عمل البدن بمقتضى ما في القلب، فشمل ذلك العبادات الظاهرة والباطنة، ولا يتم ذلك إلا بترك المعاصي الظاهرة والباطنة، فلذلك قال (واتقوه) فهذا يشمل فعل المأمورات وترك المنهيات، وخص من المأمورات الصلاة بقوله (وأقيموا الصلاة) وهي الطاعة العظيمة، لكونها تدعو إلى الإنابة والتقوى (ولا تكونوا من المشركين) لكون الشرك مضادا للإنابة، التي روحها الإخلاص من كل وجهثم ذكر المشركين، مهجنا لهم ومقبحا فقال (من الذين فرقوا دينهم) مع أن الدين واحد، وهو إخلاص العبادة لله وحده، وهؤلاء المشركون فرقوه، منهم من يعبد الأوثان والأصنام، ومنهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين، ولهذا قال (وكانوا شيعا) أي: كل فرقة تحزبت وتعصبت على نصر ما معها من الباطل، ومنابذة غيرهم ومحاربتهم (كل حزب بما لديهم) من العلوم المخالفة لعلوم الرسل (فرحون) به، يحكمون لأنفسهم بأنه الحق، وأن غيرهم على باطل، وفي هذا تحذير للمسلمين من تشتتهم وتفرقهم فرقا، كل فريق يتعصب لما معه من حق وباطل

وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون (33) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (34) أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون (35) وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئةٌ بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون (36) أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (37)

يقول تعالى مخبرًا عن الناس إنهم في حال الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له، وأنه إذا أسبغ عليهم النعم، إذا فريق منهم في حالة الاختبار يشركون بالله، ويعبدون معه غيره

وقوله: (ليكفروا بما آتيناهم) اللام للتعليل، أي: لتقييض الله لهم ذلكثم توعدهم بقوله: (فسوف تعلمون) ما تلقونه من العذاب والعقابثم قال منكرا على المشركين فيما اختلقوه من عبادة الأوثان بلا دليل ولا حجة ولا برهان (أم أنـزلنا عليهم سلطانا) أي: حجة (فهو يتكلم) أي: ينطق (بما كانوا به يشركون) ؟ وهذا استفهام إنكار، أي: لم يكن لهم شيء من ذلكثم قال: (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) ، هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله ووفقه؛ فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر أي: يفرح في نفسه ويفخر على غيره، وإذا أصابته شدة قنط وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير بالكلية؛ وقوله تعالى: (أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي: هو المتصرف الفاعل لذلك بحكمته وعدله، فيوسع على قوم ويضيق على آخرين، (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) فهم الذين يعتبرون ويعرفون بذلك حكمة الله ورحمته وجوده، وجذب القلوب لسؤاله في جميع مطالب الرزق .

فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون (38) وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون (39) الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون (40)

يقول تعالى آمرا بإعطاء (ذي القربى حقه) أي: فأعط القريب منك على حسب قربه وحاجته حقه الذي أوجبه الشارع أو حض عليه من النفقة الواجبة والصدقة والهدية والبر والسلام والإكرام والعفو عن زلته والمسامحة عن هفوته والمسكين آت المسكين الذي أسكنه الفقر والحاجة ما تزيل حاجته وتدفع به ضرورته من إطعامه وسقيه وكسوته (وابن السبيل) الغريب المنقطع في غير بلده الذي هو مظنة شدة الحاجة، وأنه لا مال معه، ولا كسب يدبر نفسه به في سفره، بخلاف الذي في بلده فإنه حتى لو لم يكن له مال فإنه لابد في الغالب أن يكون في حرفة أو صناعة ونحوها تسد حاجته.

(ذلك خير للذين يريدون وجه الله) أي: النظر إليه يوم القيامة، وهو الغاية القصوى، (وأولئك هم المفلحون) أي: في الدنيا وفي الآخرة .

ثم قال: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله) أي: ما أعطيتم من أموالكم وقصدكم بذلك أن يربو أي يزيد في أموالكم بأن تعطوها لمن تطمعون أن يعاوضكم عنها بأكثر منها، فهذا العمل لا يربو أجره عند الله لكونه معدوم الشرط الذي هو الإخلاص ومثل ذلك العمل الذي يراد به الزيادة في الجاه والرياء عند الناس فهذا كله لا يزيد عند الله .

وإنما الثواب عند الله في الزكاة؛ ولهذا قال: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) أي: الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء، كما جاء في صحيح البخاري (مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولا يَصْعَدُ إلى اللَّهِ إلَّا الطَّيِّبُ، فإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُها بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيها لِصاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ) .

وقوله: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم) أي: هو الخالق الرازق يخرج الإنسان من بطن أمه عريانا لا علم له ولا سمع ولا بصر ولا قوى، ثم يرزقه اللباس والمال والأملاك والمكاسب .وقوله:(ثم يميتكم) ، أي: بعد هذه الحياة (ثم يحييكم) أي: يوم القيامةوقوله: (هل من شركائكم) أي: الذين تعبدونهم من دون الله (من يفعل من ذلكم من شيء) أي: لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك، بل الله سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق والرزق، والإحياء والإماتة، ثم يبعث الخلائق يوم القيامة؛ ولهذا قال بعد هذا كله: (سبحانه وتعالى عما يشركون) أي: تعالى وتقدس وتنـزه وتعاظم وجل وعز عن أن يكون له شريك أو نظير أو مساو، أو ولد أو والد، بل هو الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد .

ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين (42)

قوله (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) أي: استعلن الفساد في البر والبحر، أي فساد معايشهم ونقصها وحلول الآفات بها، وفي أنفسهم من الأمراض وغير ذلك، وذلك بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها .

وقوله: (ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) أي: يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات، اختبارا منه، ومجازاة على صنيعهم، (لعلهم يرجعون) أي: عن المعاصي،

ثم قال تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) أي: من قبلكم، (كان أكثرهم مشركين) أي: فانظروا ماذا حل بهم من تكذيب الرسل وكفر النعم .

فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون (43) من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون (44) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين (45)

يقول تعالى آمرا عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته، والمبادرة إلى الخيرات: (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) أي: يوم القيامة، إذا أراد شيئاً فلا راد له ، (يومئذ يصدعون) أي: يتفرقون، ففريق في الجنة وفريق في السعير؛ ولهذا قال: (من كفر) منهم (فعليه كفره) يعاقب هو بنفسه، لا تزر وازرة وزر أخرى (ومن عمل صالحا) من الحقوق التي لله والتي للعباد الواجبة والمستحبة (فلأنفسهم) لا لغيرهم (يَمهدون) أي: يهيئون ولأنفسهم يعمرون آخرتهم ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفاتها (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله) ومع ذلك جزاؤهم ليس مقصوراً على أعمالهم، بل يجزيهم الله من فضله الممدود وكرمه غير المحدود ما لا تبلغه أعمالهم، وذلك لأنه أحبهم، وإذا أحب الله عبداً صب عليه الإحسان صبا، وأجزل له العطايا الفاخرة وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، وهذا بخلاف الكافرين، فإن الله لما أبغضهم ومقتهم، عاقبهم وعذبهم، ولم يزدهم كما زاد من قبلهم، فلهذا قال (إنه لا يحب الكافرين) فهو العادل فيهم، الذي لا يجور.

ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (46) ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين (47)

(ومن آياته) أي: من الأدلة الدالة على رحمته، وأنه الإله المعبود والملك المحمود (أن يرسل الرياح) أمام المطر (مبشرات) بإثارتها للسحاب ثم جمعها فتستبشر بذلك النفوس قبل نزوله (وليذيقكم من رحمته) أي: المطر الذي ينـزله فيحيي به العباد والبلاد، (ولتجري الفلك بأمره) أي: في البحر، وإنما سيرها بالريح، (ولتبتغوا من فضله) أي: في التجارات والمعايش، والسير من إقليم إلى إقليم، وقطر إلى قطر، (ولعلكم تشكرون) أي: تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة، التي لا تعد ولا تحصى .

ثم قال: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا) هذه تسلية من الله لعبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه ، حين كذَّبه كثير من قومه، فقد كذبت الرسل المتقدمون مع ما جاءوا أممهم به من الدلائل الواضحات، ولكن الله انتقم ممن كذبهم وخالفهم، وأنجى المؤمنين بهم، (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) ، هو حق أوجبه على نفسه الكريمة .

الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون (48) وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين (49) فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير (50) ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون (51)

يبين تعالى كيف يخلق السحاب الذي ينـزل منه الماء فقال: (الله الذي يرسل الرياح) مما يشاء الله عز وجل (فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء) أي: يمده فيكثره وينميه، ويجعل من القليل كثيرا، ينشئ سحابة فترى في رأي العين مثل الترس، ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق (ويجعله كسفا) أي: سحابا ثخينا، قد طبق بعضه فوق بعض .

وقوله (فترى الودق يخرج من خلاله) أي: فترى المطر وهو القطر يخرج من بين ذلك السحاب، (فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون) أي: لحاجتهم إليه يفرحون بنـزوله عليهم ووصوله إليهم .

وقوله: (وإن كانوا من قبل أن ينـزل عليهم من قبله لمبلسين) أي: آيسين قانطين لتأخر وقت مجيئه، فلما نزل في تلك الحال، صار له وقع عظيم عندهم وفرح واستبشار .

(فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها) فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج كريم (إن ذلك) الذي أحيا الأرض بعد موتها (لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير) فقدرته تعالى لا يتعاصى عليها شيء، وإن تعاصى على قدر خلقه ودق عن أفهامهم وحارت فيه عقولهم .

ثم قال تعالى: (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون) ، يقول (ولئن أرسلنا ريحا) مضرة متلفة للزرع الذي زرعوه بعدما نبت وشب واستوى على سوقه، فرأوه مصفرا، أي: قد اصفر وشرع في الفساد، لظلوا بعد هذا الحال يجحدون ما تقدم إليهم من النعم .

فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (52) وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (53)

وهؤلاء لا ينفع فيهم وعظ ولا زجر (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء) وليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها، ولا يبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون، وهم مع ذلك مدبرون عنك، (وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم) كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق، وردهم عن ضلالتهم، بل ذلك إلى الله تعالى، فإنه بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه؛ ولهذا قال: (إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) أي: خاضعون مستجيبون مطيعون، فأولئك هم الذين يستمعون الحق ويتبعونه، وهذا حال المؤمنين، والأول مثل الكافرين .

الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (54)

ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالا بعد حال، من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يصير عظاما ثم يكسى لحما، وينفخ فيه الروح، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفا نحيفا واهن القوى ثم يشب قليلا قليلا حتى يكون صغيرا، ثم حدثا، ثم مراهقا، ثم شابا وهو القوة بعد الضعف، ثم يَشرع في النقص فيكتهل ، ثم يشيخ ثم يهرم، وهو الضعف بعد القوة فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة؛ ولهذا قال: (ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء) أي: يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد، (وهو العليم القدير) العليم بخلقه، القادر على كل شيء .

ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون (55) وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون (56) فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون (57)

يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضا، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة واحدة، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحُجة عليهم، وأنهم لم يُنظروا حتى يعذر إليهم قال الله تعالى: (كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) أي: فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة، كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا، فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة: (لقد لبثتم في كتاب الله) أي: في كتاب الأعمال، (إلى يوم البعث) أي: من يوم خلقتم إلى أن بعثتم، (ولكنكم كنتم لا تعلمون) .

قال الله تعالى: (فيومئذ) أي: يوم القيامة، (لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم) أي: اعتذارهم عما فعلوا، (ولا هم يُستعتبون) أي: ولا هم يرجعون إلى الدنيا،

ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون (58) كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون (59) فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون (60)

يقول تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) أي: قد بينا لهم الحق، ووضحناه لهم، وضربنا لهم فيه الأمثال ليتبينوا الحق ويتبعوه (ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون) أي: لو رأوا أي آية كانت، سواء كانت باقتراحهم أو غيره، لا يؤمنون بها، ويعتقدون أنها سحر وباطل، (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون * فاصبر إن وعد الله حق) اصبر على ما أُمرت به وعلى دعوتهم إلى الله ولو رأيت منهم إعراضاً، فلا يصدنك ذلك، فإن وعد الله حق لا شك فيه، وهذا مما يعين على الصبر، فإن العبد إذا علم أن علمه غير ضائع، بل سيجده كاملا، هان عليه ما يلقاه من المكاره، وتيسر عليه كل عسير، واستقل من عمله كل كثير، فاصبر على مخالفتهم وعنادهم، فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك من نصره إياك، وجعله العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة، (ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) أي: من قد ضعف إيمانهم، وقل يقينهم، فخفت لذلك أحلامهم، وقلَّ صبرُهم، فإياك إن يستخفك هؤلاء، فاثبتْ على ما بعثك اللهُ به، فإنه الحق الذي لا مريةَ فيه، ولا تعدل عنه وليس فيما سواه هدى يتبع، بل الحق كلُّه منحصرٌ فيه .

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

تم تفسير سورة الروم ، ولله الحمد والمنَّة.

10 - 6 - 1439هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر