ﺟﺪﻳﺪ اﻟﻤﻮﻗﻊ

لا ضرر ولا ضرار

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 18 صفر 1439هـ | عدد الزيارات: 1742 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله رب العالمين، أمر بالبر والإحسان، ونهى عن الظلم والعدوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك والحمد والعظمة والسلطان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات والبراهين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين نشروا دينه في عموم الأوطان، وسلم تسليما كثيرا

أما بعد، أيها الناس

اتقوا الله تعالى، وكونوا عباد الله إخوانا كما سماكم الله، يحب أحدكم لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه، يبذل خيره لأخيه، ويكف عنه شره، ولا يؤذيه،

والضرر: ضد النفع.

والمضارة بالناس على نوعين

النوع الأول: أن يضارهم في غير مصلحة تعود عليه في نفسه، وهذا لا شك في تحريمه وقبحه، وقد ورد في القرآن الكريم النهي عن المضارة في مواضع، منها: المضارة في الوصية، قال تعالى (من بعد وصية يوصَى بها أو دين غير مضار) النساء: 12

وقال ابن عباس رضي الله عنهما الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم تلا الآية المذكورة آنفا

وذلك؛ لأن الله توعده أن يدخله النار خالدا فيها، وذلك لا يكون إلا على كبيرة

والإضرار في الوصية على نوعين

النوع الأول: أن يوصي لبعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له، فيتضرر بقية الورثة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)رواه البخاري عن ابن عباس

النوع الثاني: أن يوصي بزيادة على الثلث لغير وارث، فيُنقص حقوق الورثة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص بالوصية بالثلث فأقل، فقال (الثلث، والثلث كثير)رواه مسلم

ومن المضارة المنهي عنها في القرآن: المضارة في العشرة الزوجية، كالمضارة بمراجعة الزوجة المطلقة، إذا طلقها ثم راجعها من غير أن يكون له رغبة فيها، وإنما قصده حبسها حتى تصبح لا هي ذات زوج ولا مطلقة

وفي الجاهلية كان الرجل يطلق المرأة، فإذا قاربت نهاية العدة راجعها إضرارا لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها، قال تعالى (فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه) البقرة: 231، وقال تعالى (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) البقرة: 228

فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة بالزوجة، فإنه آثم بذلك

ومن أنواع المضارة في العشرة الزوجية: المضارة بالإيلاء، بأن يحلف على ترك وطء زوجته، وقد أمر الله أن يُضرب له مدة أربعة أشهر، فإن رجع في أثنائها وكفر عن يمينه ووطئ زوجته كان ذلك توبته، وإن استمر على يمينه ولم يطأ زوجته حتى مضت أربعة الأشهر ألزمه الحاكم إما بالرجوع إلى وطء زوجته، والتكفير عن يمينه

وإما بالطلاق، وذلك لإزالة الضرر عن الزوجة، قال تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) البقرة: 226

ومن المضارة في العشرة الزوجية: أن يطيل الزوج السفر من غير عذر، وتطلب امرأته قدومه فيأبى، وحكمه أن يمهل ستة أشهر، فإن أبى القدوم بعد مضيها، فإن الحاكم يفرق بينه وبين زوجته إذا طلبت ذلك، دفعا للضرر عنها

ومن أنواع المضارة الممنوعة في القرآن: المضارة في تربية الأولاد، كالمضارة في الرضاع، قال تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده) البقرة: 233

فإضرار الوالدة بولدها: أن يُنزع ولدُها منها من أجل الإضرار بها، وإضرار المولود له وهو الأب بولده أن تأبى أمه أن ترضعه، ليتكلف الأب طلب المَراضع والمربيات له من غيرها

ومن أنواع الضرر المنهي عنه في القرآن: المضارة في المعاملات، كمضارة الكُتاب والشهود الذين يكتبون الوثائق، ويثبتون الحقوق بكتاباتهم وشهاداتهم، وقد نهى الله عن المضار بهم والمضارة منهم بأصحاب الحقوق، قال تعالى (ولا يضارَ كاتب ولا شهيد) البقرة: 282

فالإضرار بالكاتب والشاهد: أن يدعيا للكتابة والشهادة في وقت، أو حالة تضرهما، ومضارة الكاتب والشاهد لأصحاب الحقوق أن يكتب الكاتب غير ما يملى عليه، ويشهد الشاهد بخلاف ما رأى أو سمع، أو يكتم الشهادة بالكلية عند الحاجة إليها

ومن المضارة في المعاملات: المضارة بالمدين المعسر الذي أمر الله بإنظاره إلى ميسرة، أو إعفائه من الدين، قال تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) البقرة: 280، فلا تجوز مطالبته ولا حبسه ما دام معسرا، كما لا يجوز أن يَضار المدين الواجد بالدائن فيما طلبه من قضاء حقه

ومن المضارة المنهي عنها في المعاملات: بيع المضطر، وذلك بأن يضطر الفقير إلى شراء سلعة، فلا يجد من يبيع عليه إلا بغبن فاحش، أو يضطر إلى بيع سلعة، فلا يجد من يشتريها منه إلا برخص كثير

وسُئل أحمد عن بيع المضطر ما معناه؟ قال: يجيئك وهو محتاج، فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين

عباد الله: إنه لا مانع من البيع المؤجل بثمن أكثر من الثمن الحاضر للمحتاج وغير المحتاج، ولكن لا ينبغي أن تكون الزيادة كثيرة مجحفة، لا سيما إذا كان المشتري مضطرا إلى الشراء، فلا ينبغي أن تستغل ضرورته، ويحمل الزيادات الباهظة؛ لأن هذا إضرار يتنافى مع الرحمة والفضل بين المسلمين

ومن أنواع الضرر الممنوع في الإسلام: الضرر في مجال العبادات، قال تعالى (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا) التوبة: 107-108

فاعتبر الضرر الحاصل في اتخاذ هذا المسجد في مطلع المقاصد السيئة، ومَنعَ رسوله من الصلاة فيه وأمر بهدمه

النوع الثاني من أنواع المضارة: أن يضار الناس بما فيه له منفعة خاصة، مثل أن يتصرف في ملكه بما يترتب عليه الإضرار بجيرانه، مثل أن يغرس في ملكه شجرا تتمدد أغصانه وعروقه على أملاك جيرانه، أو يحفر بئرا يجذب الماء عنهم، أو ينشئ مصنعا في ملكه يتضرر منه جيرانه بالدخان أو الغبار أو الأصوات أو الروائح، أو يفتح في جداره نوافذ تطل على جيرانه، أو يعلي البناء عليهم فيمنع عنهم الهواء، والشمس إلى غير ذلك، فإن هذا الضرر ممنوع تجب إزالته

وكذلك من أعظم المضارة بالجيران أن يؤجر بيته لأناس لا يصلون ولا يخافون الله، فإن هؤلاء يضرون المسلمين ويضايقونهم وقد يؤثرون على أولادهم ومن خالطهم

فاتقوا الله يا من تؤجرون البيوت لا تجلبوا الكفرة والفساق وتسكنوهم بجوار المسلمين، فإن الأجرة التي تحصل منهم لكم حرام، والمسلمون يدعون عليكم فتلحقكم الآثام، وكذلك يحرم تأجير الدكاكين والمحلات لبيع المواد المحرمة كتسجيلات الأغاني وأشرطة الفيديو أو جعلها محلات للتصوير أو بيع التبغ

ومن الإضرار الممنوع في حق الجار: منعه من الارتفاق بملك جاره على وجه لا يضر به، كأن يحتاج إلى وضع خشبة على جدار جاره، والجدار يتحمل فإنه يجب على صاحب الجدار أن يمكنه من ذلك، لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة على جداره)

ومن الإضرار الممنوع: أن يُمنع الناس من الانتفاع بالمباحات المشتركة، كالمنع من فضول المياه الجارية في الأنهار والأودية والمجتمعة في الخوابي، وغيرها، أو يُمنعوا من الرعي في الفلوات، أو الاحتشاش أو الاحتطاب من الأراضي الموات، أو الانتفاع بالمعادن المباحة، كمعادن الملح وغيره، ففي الصحيحين عن أبي هريرة ضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تَمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ) وفي سنن أبي داود: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الماء، قال: يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الملح، قال: يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: أن تفعل الخير خيرٌ لك

ومن الإضرار الممنوع: مضارة الناس في طرقاتهم بوضع الأذى فيها، أو وضع ما يمنع المرور أو يسبب الحوادث، أو مخالفة أنظمة السير بما يعرض الناس للخطر، كل هذا ضرر محرم

فاتقوا الله عباد الله، وعليكم ببذل النفع لإخوانكم وجيرانكم، ومنع الضرر والضرار (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب) المائدة: 2

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه بالدين والهدى وكلمة التقوى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا في الآخرة والأولى

أما بعد، أيها الناس

اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه كما يحرم على المسلم أن يضرَ بالناس يحرم عليه أن يضر نفسه، كأن يعرضها للخطر من غير مصلحة راجحة، قال تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) البقرة: 195

وقد توعد الله من قتل نفسه بأشد الوعيد، قال تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا) النساء: 29-30

وكذلك من تسبب في قتل نفسه، أو إمراض جسمه، أو الإخلال بعقله، بتناول المسكرات والمخدرات، وشرب الدخان والقات، فإنه متوعد بأشد الوعيد، ومعرض لأشنع العقوبات في الدنيا والآخرة

ومن الإضرار بالنفس: التشديد عليها وتعريضُها للمشقة في أمور العبادات، وقد شرع الله لعباده شريعة سمحة لا حرج فيها، فقال (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) البقرة: 185

شرع لأصحاب الأعذار من المرضى والمسافرين والخائفين أحكاما تخصهم في الصلاة والصيام، وتتناسب مع أحوالهم، وشرع لعباده الاقتصاد في العبادة مع المداومة عليها، فخير العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قل

ونهى عن الغلو والتشدد، قال تعالى (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) النساء: 77، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)رواه أحمد وصححه

والغلو: هو الزيادة عن الحد المشروع، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة من أصحابه أراد أحدهم أن يصوم فلا يفطر، وأراد الآخر أن يقوم الليل فلا يرقد، وأراد الثالث أن لا يتزوج النساء، قال صلى الله عليه وسلم (أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)رواه البخاري عن أنس بن مالك فعليكم عباد الله باتباع الكتاب والسنة في عبادتكم، فخير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها

هذا وصلوا وسلموا على خير البرية نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) الأحزاب: 56

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وكل أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين

اللهم أيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، اللهم أعز به دينك، وأعل بهم كلمتك، واجمع به كلمة المسلمين يا رب العالمين

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين

اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير

اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم سدد سهامهم وآراءهم، واجمع كلمتهم، واجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز

اللهم إن هؤلاء اليهود الصهاينة المحتلين الغاصبين قد طغوا وبغوا، وآذوا وأفسدوا، اللهم وأرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين

اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين

اللهم ارحم موتى المسلمين، واشف مرضاهم، وفك أسراهم، وأصلح لهم شأنهم كله يا رب العالمين

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون النحل:90، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون العنكبوت:45

1439-2-18 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 2 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي