الدرس 234 قصة ملك اليمن أبرهة الحبشي في محاولته هدم الكعبة

المقال
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 15 جمادى الأولى 1437هـ | عدد الزيارات: 2076 القسم: الفوائد الكتابية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد :

قال تعالى (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول) الفيل : 1 - 5

قيل : أول من ذلل الفيلة أفريدون بن أثفيان الذي قتل الضحاك قاله الطبري وهو أول من اتخذ للخيل السروج ، وأما أول من سخر الخيل وركبها فطهمورث وهو الملك الثالث من ملوك الدنيا ، ويقال : إن أول من ركبها إسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام ويحتمل أنه أول من ركبها من العرب والله تعالى أعلم ، ويقال : إن الفيل مع عظمة خلقه يفرق من الهِر وقد احتال بعض أمراء الحروب في قتال الهنود بإحضار سنانير إلى حَومة الوغى فنفرت الفيلة

قال ابن إسحاق : إن أبرهة بنى القُليس بصنعاء فبنى كنيسة لم يُر مثلها - في زمانها - بشيء من الأرض ، وكتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك كنيسة ، لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب

فذكر السهيلي أن أبرهة استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة الخسيسة ، وسخرهم فيها أنواعا من السخر وكان من تأخر عن العمل حتى تطلع الشمس ، يقطع يده لا محالة ، وجعل يُنقل إليها من قصر بلقيس رخاما ، وأحجارا ، وأمتعة عظيمة ، وركب فيها صلبانا من ذهب ، وفضة ، وجعل فيها منابر من عاج ، وآبنوس ، وجعل ارتفاعها عظيما جدا ، واتساعها باهرا فلما هلك بعد ذلك أبرهة ، وتفرقت الحبشة كان من تعرض لأخذ شيء من بنائها ، وأمتعتها أصابته الجن بسوء ، وذلك لأنها كانت مبنية على اسم صنمين كعيب وامرأتِه وكان طول كل منهما ستون ذراعا فتركها أهل اليمن على حالها فلم تزل كذلك إلى زمن السفاح أول خلفاء بني العباس فبعث إليها جماعة من أهل العزم والحزم والعلم فنقضوها حجرا حجرا ، ودَرست آثارها

قال ابن إسحاق : فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي غضب رجل من النَسَأَةُ من كنانة الذين ينسئُون الشهر الحرام إلى الحل بمكة أيام الموسم كما في قوله تعالى (إنما النسيء زيادة في الكفر) الآية التوبة : 37 قال ابن إسحاق : فخرج الكِناني حتى أتى القُليس فقعد فيه أي أحدث حيث لا يراه أحد ، ثم خرج فلحق بأرضه فأُخبر أبرهة بذلك فقال : من صنع هذا ؟ فقيل له : صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة لما سمع بقولك أنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا فغضب فجاء فقعد فيها فغضب أبرهة عند ذلك ، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه ، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ثم سار ، وخرج معه بالفيل

وسمعت بذلك العرب فأعظموه ، وفظعوا به ، ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن ، وملوكهم يقال له : ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام وما يريده من هدمه وإخرابه فأجابه من أجابه إلى ذلك ، ثم عرض له فقاتله فهُزم ذو نفر وأصحابه وأُخذ له ذو نفر فأُتي به أسيرا فلما أراد قتله قال له ذو نفر : يا أيها الملك لا تقتلني ; فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من القتل فتركه من القتل ، وحبسه عنده في وثاق وكان أبرهة رجلا حليما ، ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نُفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم ، وهما : شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب فقاتله فهزمه أبرهة وأُخذ له نُفيل أسيرا فأُتي به فلما هم بقتله قال له نُفيل : أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم - شهران وناهس - بالسمع والطاعة فخلى سبيله ، وخرج به معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مُعتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف في رجال ثقيف فقالوا له : أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف ، وليس بيتُنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة ، ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم

قال ابن إسحاق : واللاتَ بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة قال : فبعثوا معه أبا رِغال يدله على الطريق إلى مكة فخرج أبرهة ، ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمس فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت قبره العرب فهو القبر الذي يَرجم الناس بالمغمس وفي قصة ثمود أن أبا رِغال كان رجلا منهم وكان يمتنع بالحرم فلما خرج منه أصابه حجر فقتله وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لأصحابه وآية ذلك أنه دُفن معه غصنان من ذهب فحفروا فوجدوهما قال وهو أبو ثقيف

والجمع بين هذا وبين ما ذكر ابن إسحاق أن أبا رِغال هذا المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى ، ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول وقد قال جرير

إذا مات الفرزدق فارجموه كرجمكم لقبر أبي رِغال

الظاهر أنه الثاني

قال ابن إسحاق : فلما نزل أبرهة بالمغمس ، بعث رجلا من الحبشة يقال له : الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وهو يومئذ كبير قريش وسيدها فهمت قريش ، وكنانة وهذيل ، ومن كان بذلك الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك ، وبعث أبرهة حِناطة الحميري إلى مكة ، وقال له : سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول : إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تَعرضوا لنا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يُرد حربي فأتني به فلما دخل حِناطة مكة سأل عن سيد قريش ، وشريفها فقيل له : عبد المطلب بن هاشم فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة فقال له : عبد المطلب والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام - أو كما قال - فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته ، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه فقال له حناطة : فانطلق معي إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك فانطلق معه عبد المطلب ، ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا حتى دخل عليه وهو في محبسه فقال له : يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر : وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي فسأرسل إليه ، وأوصيه بك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك فقال : حسبي فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له : إن عبد المطلب سيد قريش ، وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال وقد أصاب له المَلك مائتي بعير فاستأذن له عليه ، وانفعه عنده بما استطعت قال : أفعل فكلم أنيس أبرهة فقال له : أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عير مكة وهو الذي يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال فأذن له عليك فليكلمك في حاجته فأذن له أبرهة قال : وكان عبد المطلب أوسم الناس وأعظمهم وأجملهم فلما رآه أبرهة أجله ، وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه ، وأجلسه معه عليه إلى جانبه ، ثم قال لترجمانه : قل له : حاجتك فقال له ذلك الترجمان فقال : حاجتي أن يرد علي المَلك مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه : قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ، ودين آبائك قد جئتُ لأهدمه لا تكلمني فيه ؟ فقال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه فقال : ما كان ليمتنع مني قال : أنت وذاك فرد على عبد المطلب إبله

قال ابن إسحاق : ويقال : إنه كان قد دخل مع عبد المطلب على أبرهة يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة سيد بني بكر ، وخويلد بن واثلة سيد هذيل فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم ذلك فالله أعلم أكان ذلك أم لا

فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في رؤوس الجبال ، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ، ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، وقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة

لاهم إن العبد يمنع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا محالك إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك قال ابن هشام هذا ما صح له منها ، وقال ابن إسحاق : ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال يتحرزون فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله وعبى جيشه وكان اسم الفيل محمودا فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل ، ثم أخذ بأُذنه فقال : اُبرك محمود وارجع راشدا من حيث أتيت فإنك في بلد الله الحرام ، وأرسل أذنه فبرك الفيل
وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل ، وضربوا الفيل ليقوم فأبى فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك ، وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك ، وليس كلهم أصابت ، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاءوا ، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن

قال ابن إسحاق حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أول ما رئي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام

قال ابن إسحاق : فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان مما يعد الله على قريش من نعمته عليهم ، وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال تعالى:" ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول " الفيل : 1 - 5
قال ابن هشام الأبابيل الجماعات ، وأما السجيل فأخبرني يونس النحوي ، وأبو عبيدة أنه عند العرب : الشديد الصلب، قال : والعصف : ورق الزرع الذي لم يقصب ، وقال الكسائي : سمعت بعض النحويين يقول : واحد الأبابيل إبيل ، وقال كثيرون من السلف : الأبابيل الفرق من الطير التي يتبع بعضها بعضا من هاهنا ، وهاهنا

وقال ابن إسحاق: وليس كلهم أصابته الحجارة يعني : بل رجع منهم راجعون إلى اليمن حتى أخبروا أهلهم بما حل بقومهم من النكال وذكروا أن أبرهة رجع وهو يتساقط أُنملة أُنملة فلما وصل إلى اليمن انصدع صدره فمات لعنه الله وروى ابن إسحاق عن عائشة قالت : لقد رأيت قائد الفيل ، وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان وتقدم أن سائس الفيل كان اسمه أنيسا فأما قائده فلم يسم والله أعلم

وذكر النقاش في " تفسيره " أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر

وفي عامها ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشهور
ثم ذكر ابن إسحاق ما قالته العرب من الأشعار في هذه الكائنة العظيمة التي نصر الله فيها بيته الحرام الذي يريد أن يشرفه ويعظمه ويطهره ، ويوقره ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وما يشرع له من الدين القويم الذي أحد أركانه الصلاة بل عماد دينه ، وسيجعل قبلته إلى هذه الكعبة المطهرة ، ولم يكن ما فعله بأصحاب الفيل نصرة لقريش إذ ذاك على النصارى الذين هم الحبشة فإن الحبشة إذ ذاك كانوا أقرب لها من مشركي قريش ، وإنما كان النصر للبيت الحرام ، وإرهاصا وتوطئة لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم

قال السهيلي : وكانت قصة الفيل أول المحرم من سنة ست وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

14-5-1437 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 9 =

/500
روابط ذات صلة
المقال السابق
الفوائد الكتابية المتشابهة المقال التالي