الدرس الثالث والثلاثون: الحديث 23 كل خير صدقة

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 21 ربيع الثاني 1437هـ | عدد الزيارات: 2186 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

" عَنْ أَبِي مَالِكٍ الحَارِثِ بنِ عَاصِم الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ، والحَمْدُ للهِ تَمْلأُ الميزانَ، وسُبْحَانَ اللهِ والحَمْدُ للهِ تَمْلآنِ أَو تَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، وَالصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَو عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا " رواه مسلم

راوي الحديث

أبو مالك الحارث بن عاصم الأشعري: نسبه إلى الأشعر وهي قبيلة مشهورة في اليمن، قدم مع الأشعريين على النبي صلى الله عليه وسلم، ويعد من الشاميين، توفي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالطاعون، وروي له عن النبي صلى الله عليه وسلم 27 حديثاً

أهمية الحديث

هذا الحديث أصل من أًصول الإسلام وقد اشتمل على مهمات من قواعد الإسلام

شرح الحديث
قوله صلى الله عليه وسلم (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ) الطهور الفعل وهو بضم الطاء (شطر الإيمان) أي نصفه وذلك أن الإيمان تخلية بالطهور، وتحلية بفعل الطاعات

فكون الطهور شطر الإيمان أن الإيمان إما فعل وإما ترك، والتّركُ تَطَهُّرٌ، والفعل إيجاد، فقوله صلى الله عليه وسلم (شَطْرُ الإِيْمَانِ) التخلي عن الشرك لأن الشرك بالله نجاسة كما قال الله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس) فلهذا كان الطهور شطر الإيمان، فالإيمان يتبعض نصفه ترك الشرك والنصف الثاني فعل الطاعات

وقوله صلى الله عليه وسلم (وَالحَمْدُ للهِ تَمْلأُ المِيزَانَ) يعني قول القائل الحمد لله يمتلئ الميزان بها، أي الميزان الذي توزن به الأعمال كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ

وقوله صلى الله عليه وسلم (وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمدُ للهِ تَمْلآنِ أو تَمْلأُ) (أو) هذا شك من الراوي، يعني هل قال: تملآن ما بين السماء والأرض، أو قال: تملأ ما بين السماء والأرض. والمعنى لا يختلف، ولكن لحرص الرواة على تحرّي الألفاظ يأتون بمثل هذا، (سبحان الله والحمد لله) فيها نفي وإثبات. النفي في قوله صلى الله عليه وسلم (سُبْحَانَ اللهِ) أي تنزيهاً لله عزّ وجل عن كل ما لا يليق به، والذي ينزه الله تعالى عنه ثلاثة أشياء

الأول: صفات النقص، فلا يمكن أن يتصف بصفة نقص، ودليله قول الله عزّ وجل (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) فنفى عنه الموت لأنه نقص، وقوله (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) فنفى عنه السِّنَة والنوم لأنهما نقص، والسنة الغفلة

الثاني: النقص في كماله، فكماله لايمكن أن يكون فيه نقص، ودليله قول الله عز وجل (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) فخلق هذه المخلوقات العظيمة قد يوهم أن يكون بعدها نقص أي تعب وإعياء فقال تعالى: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ

الثالث: مشابهة المخلوق، ودليله قول الله عز وجل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) حتى في الكمال الذي هو كمال في المخلوق فلا يماثل صفة من صفات الله عز وجل

قوله صلى الله عليه وسلم (والصَّلاةُ نور) أي صلاة الفريضة والنافلة نور في القلب، ونور في الوجه، ونور في القبر، ونور في المحشر، لأن الحديث مطلق، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ) أخرجه الإمام أحمد

فالصلاة فريضة محكمة وركن أساسي من أركان الإسلام تدل صاحبها على طريق الخير، وتمنعه من المعاصي، وتهديه سبيل الاستقامة، قال تعالى (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) وقال صلى الله عليه وسلم (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) رواه أبو داود والترمذي

وقال صلى الله عليه وسلم (الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ) الصدقة: بذل المال للمحتاج تقرّباً إلى الله عزّ وجل، و(بُرْهَانٌ) أي دليل على صدق إيمان المتصدّق، وجه ذلك: أن المال محبوب للنفوس، ولايبذل المحبوب إلا في طلب ما هو أحب، وهذا يدلّ على إيمان المتصدق، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة برهانا

وقال صلى الله عليه وسلم (وَالصَّبرُ ضِيَاءٌ) الصبر: حبس النفس عما يجب الصبر عنه وعليه، قال أهل العلم: الصبر ثلاثة أنواع

الأول: صبر عن معصية الله: بمعنى أن تحبس نفسك عن فعل المحرّم حتى مع وجود السبب، ومثاله: رجل حدثته نفسه أن يزني والعياذ بالله فمنع نفسه، كما فعل يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز، فإن امرأة العزيز دعته إلى نفسها والعياذ بالله في حال هي أقوى ما يكون للإجابة، لأنها غلّقت الأبواب وقالت: هيت لك، أي هيئت نفسي لك فهي تدعوه إلى نفسها، فقال: إنه ربي أي سيدي أحسن مثواي يريد بذلك زوجها العزيز إنه لايفلح الظالمون، يعني فإن خنته في أهله فأنا ظالم

الثاني: صبر على طاعة الله: بأن يحبس الإنسان نفسه على طاعة الله كرجل أراد أن يصلي، فدعته نفسه إلى الكسل، أو إلى الفراش، أو إلى الطعام الذي ليس بحاجة إليه، أو إلى محادثة الإخوان، ولكنه ألزم نفسه بالقيام للصلاة، فهذا صبر على طاعة الله

الثالث: صبر على أقدار الله: فإن الله تعالى يقدر للعبد ما يلائم الطبيعة وما لايلائم، والذي لا يلائم يحتاج إلى صبر، بأن يحبس نفسه عن التسخّط القلبي أو القولي أو الفعلي إذا نزلت به مصيبة، فإذا نزل بالعبد مصيبة فإنه يحبس قلبه عن التسخط القلبي، وأن يقول إنه يرضى عن ربه عزّ وجل

والتسخط القولي: بأن لايدعو بالويل والثبور كما يفعل أهل الجاهلية

والتسخط الفعلي: بأن لا يشق الجيوب، ولا يلطم الخدود

فقوله صلى الله عليه وسلم (وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ) ولم يقل إنه نور، والصلاة قال: إنها نور. وذلك لأن الضياء فيه حرارة، كما قال الله تعالى (هو الذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً) والصبر فيه حرارة ومرارة لأنه شاق على الإنسان

قوله صلى الله عليه وسلم (والقُرآنُ حُجَّةٌ لَكَ اَو عَلَيْكَ) القرآن هو كلام الله عزّ وجل الذي نزل به جبريل الأمين لا تبديل فيه ولا تغيير، هذا القرآن كلام الله تكلّم به حقيقة، وسمعه جبريل عليه السلام، ونزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فهو كلام الله لفظه ومعناه، فالأمر والنهي والقصص كلها كلام الله عزّ وجل، (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أكد الله عزّ وجل ذلك بالقسم وبإن واللام (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) وهو اللوح المحفوظ، فالقرآن الكريم كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة مثل قوله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زوجها) وهو حين كتابته قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة لم يسمع قولها، لأن المجادلة لم تخلق أصلاً حتى تُسمَع مجادلتها فالله قد علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ، كما أنه علم المقادير وكتبها في اللوح المحفوظ وعند تقديرها يتكلم الله عزّ وجل بقوله كن فيكون، هكذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

والله تعالى عند إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم يتكلم به ويلقيه إلى جبريل، هذا كلام الله غير أن أهل البدع حرفوا وبدلوا وغيرّوا فقالوا: هذا القرآن ليس كلام الله، ولكنه عبارة عن كلام الله، وقال المعتزلة كلام الله عز وجل ليس المعنى القائم بنفسه لكن كلام الله مخلوق كسائر المخلوقات يخلق الله كلام ويضيفه إليه إضافة تشريف كما أضاف إلى نفسه الناقة والمساجد والبيت ونقول لهم القرآن كلام الله ليس مخلوق أما إضافة الناقة أو المساجد أو البيت فهي إضافة تشريفية

والفرق بين قول المعتزلة والأشاعرة، قال المحققون إنه لا فرق، بل المعتزلة خير من الأشاعرة في هذا، فالمعتزلة يقولون هذا القرآن كلام الله، والأشاعرة يقولون: عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، وقد اتفقا على أن ما بين دفّتي المصحف مخلوق، لكن المعتزلة قالوا: هذا كلام الله خلقه كما خلق السموات والأرض والشمس، أضافها إلى نفسه إضافة تشريف، وقال الأشاعرة: كلام الله هو المعنى القائم بنفسه وخلق أصواتاً سمعها جبريل عبارة عما في نفسه تعالى الله عما يقولون

ونحن نقول: هذا القرآن كلام الله غير مخلوق، ونقول ليس كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، المعنى القائم بنفسه علم وليس بكلام حتى يتكلم به الله فالقرآن كلام الله حقاً، تكلم به، وسمعه جبريل، ونزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فوعاه النبي صلى الله عليه وسلم والقُرآنُ حُجَّةٌ لكَ إذا قمت بما يجب له من نصيحة، ويكون حجة عليك إذا لم تنصح له، هو حجة لك إن تلوته وعملت به وإلا فهو حجة عليك (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) إذا أقمت الصلاة وأديت الزكاة كان حجة لك وإلا فهو حجة عليك

قوله صلى الله عليه وسلم (كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو) أي كل الناس يخرج مبكراً في الغدوة في الصباح وهذا من باب ضرب المثل

قوله صلى الله عليه وسلم (فَبَائِعٌ نَفْسَهُ) أي الغادي يبيع نفسه بتكليفها بالعمل، لأنه إذا كلفها بالعمل أتعب النفس فباعها، وهؤلاء الباعة ينقسمون إلى قسمين: معتق وموبق، فيكون بيعه لنفسه إعتاقاً إذا قام بطاعة الله عزّ وجل لقوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) يشري نفسه أي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله وبقيامه بطاعته يكون قد أعتقها من العذاب والنار والذي أوبقها هو الذي لم يقم بطاعة الله حيث أمضى عمره خسراناً، فهذا موبق لها أي مهلك لها

وبتأمل هذا الحديث يتبين أن الإنسان لا بد أن يعمل إما خيراً وإما شراً

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1437/4/21 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

6 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر