الدرس الثامن والعشرون: الحديث 18 حسن الخلق

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 16 ربيع الأول 1437هـ | عدد الزيارات: 2314 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

"عَنْ أَبِيْ ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُعَاذِ بِنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" رواه الترمذي وقال حديث حسن وفي بعض النسخ حسنٌ صحيح.

مناقب أبي ذر كثيرة منها أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وأمره أن يلحق بقومه بالمدينة فلما رأى حرصه على المقام معه بمكة وعلم أنه لا يقدر على ذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها

لغة الحديث

اتق الله: التقوى في اللغة اتخاذ وقاية وحاجز يمنعك ويحفظك مما تخاف منه وتحذره وتقوى الله عز وجل أن يجعل العبد بينه وبين ما يخشاه من عقابه وقاية تقيه وتحفظه منه ويكون ذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه

حيثما كنت: حيث ظرف مكان أي في أي مكان كنت سواء في العلانية أو في السر وسواء في البيت أو في السوق وسواء عندك أناس أو ليس عندك أحد

قوله صلى الله عليه وسلم (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) اتبع فعل أمر، والسيئة مفعول أول، والحسنة مفعول ثاني

أتبع: ألحق وافعل عقبها والسيئة هي الذنب الذي يصدر منك

قوله صلى الله عليه وسلم (تمحها) جواب الأمر ولهذا جزمت لأن جواب الأمر يكون مجزوماً ولو لم تكن مجزومة لقيل تمحوها والمعنى إذا فعلت سيئة فأتبعها بحسنة فهذه الحسنة تمحو السيئة وإن لم تكن توبة ودليل ذلك قوله تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات) ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل وقال: إنه أصاب من امرأة ما يصيب الرجل من امرأته إلا الزنا، وكان قد صلى معهم الفجر، فقال صلى الله عليه وسلم: أصليت معنا صلاة الفجر قال: نعم، فتلى عليه الآية (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات) أخرجه البخاري ومسلم، وهذا يدل على أن الحسنة تمحو السيئة وإن لم تكن توبة، فقوله صلى الله عليه وسلم (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) فبين النتيجة وهي أنها تمحوها أي تزيلها من صحائف الملائكة الكاتبين وترفع المؤاخذة عنها وهذا موافق لقوله: "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات"

قوله صلى الله عليه وسلم (وخالق الناس بخلق حسن) أي عامل الناس بخلق حسن، عاملهم بما تحب أن يعاملوك به جاهد نفسك في ذلك

والخُلق هو الصفة الباطنة في الإنسان، والخَلق هو الصفة الظاهرة، والمعنى عامل الناس بالأخلاق الحسنة بالقول وبالفعل

فالخُلق الحسن كف الأذى منك عن الناس وبذل الندى أي العطاء والصبر على الأذى لأن الإنسان لا يخلو من أذية من الناس

والوجه الطلق أي طلاقة الوجه

وجامع ذلك قوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ) أي خذ ما عفا وسهل من الناس، ولا ترد من الناس أن يأتوك على ما تحب لأن هذا أمر مستحيل، لكن خذ ما تيسر،" وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ".

والخلق الحسن بعضه جبلي، وبعضه يحصل بالكسب، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد قيس (إِنَّ فِيْكَ لخصلتين يُحِبُّهُمَا اللهُ: الحِلْمُ وَالأَنَاةُ قال يارسول الله أخلقين تخلّقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ قال بَلْ جَبَلَكَ اللهُ عَلَيْهِمَا قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله) أخرجه مسلم

فالخلق الحسن يكون طبيعياً يمن الله به عليه من الأصل ويكون بالكسب أي أن الإنسان يمرن نفسه على الخلق الحسن حتى يكون ذا خلق حسن فمع التمرين ينتج السلوك الحسن فيكسب الإنسان الراحة والطمأنينة وعدم القلق لأنه مطمئن من نفسه في معاملة غيره وهو حين يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به يعلم ثمرة ذلك فعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله ليبغض الفاحش البذيء) رواه الترمذي

وحسن الخلق من صفات النبيين والمرسلين وخيار المؤمنين لا يجزون بالسيئة بل يعفون ويصفحون ويحسنون مع الإساءة إليهم

فقه الحديث

أولاً: وجوب تقوى الله عزّ وجل حيثما كان الإنسان، لقوله صلى الله عليه وسلم (اتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ) وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه في السر والعلن فيظهر التقوى للتأسّي لأن الله مدح الذين ينفقون سرّاً وعلانية، وقال صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ) أخرجه مسلم

ويسر بالتقوى إذا لم يكن هناك فائدة من الإظهار لقوله صلى الله عليه وسلم (فيمن يظلّهم الله في ظله، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِيْنُهُ) أخرجه البخاري

كما يجهر بترك المعصية ليتأسى به غيره مثل أراد أن يدخل في عمل فقيل له: إنه محرم كالتجارة في الأسهم بموجب فتوى الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء فتركه جهاراً، فذلك أفضل لأنه يُتأسّى به، وأما إذا كان الأمر لا يتعدى إلى الغير ولا ينتفع به فالإسرار أفضل

فائدة: بموجب فتوى الشيخ الفوزان بتحريم تداول الأسهم فإن جميع المداينات بالأسهم تعتبر حرام

ثانياً: التقوى سبيل النجاة التي هي جماع كل خير والوقاية من كل شر بها استحق المؤمنون التأييد والمعونة من الله تعالى (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) ووعدهم عليها بالرزق الحسن والخلاص من الشدائد (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) وبها حفظهم من كيد الأعداء (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) وجعل للمتقين حقاً على نفسه أن يرحمهم (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) ووصف نفسه تعالى بأنه حقيق بها وبالمغفرة لمن اتصف بها (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) وأنزلهم في الآخرة بجواره: إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر

ثالثاً: حقيقة التقوى كلمة جامعة مانعة تشمل كل ما جاء يه الإسلام من عقيدة وعبادة ومعاملة وخلق قال الله تعالى :{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ }(البقرة 177)) إلى آخر الآية

رابعاً: من كمال التقوى البعد عن الشبهات وما التبس بالحرام من الأمور

خامساً: لا تتحقق التقوى بمعانيها ولا تؤتي ثمارها إلا إذا توفر العلم بدين الله تعالى لدى المسلم

سادساً: التوبة من الذنب والإسراع في عمل الخير خلق المؤمنين المتقين

سابعاً: نور الطاعة يبدد ظلمة المعصية

ثامناً: فضل الله عز وجل على العباد وذلك لو رجعنا إلى العدل لكانت الحسنة لا تمحو السيئة إلا بالموازنة وظاهر الحديث العموم ولا يشترط أن ينوي بهذه الحسنة أن يمحو السيئة التي فعل بل مجرد فعل الحسنات تذهب السيئات، واتبع السيئة الحسنة تمحها

تاسعاً: الحث على مخالقة الناس بالخلق الحسن، لقوله صلى الله عليه وسلم (وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) ومعاملة الناس بالحزم والقوة والجفاء أحياناً لا ينافي الحديث، لأن لكل مقام مقال، فإذا كانت المصلحة في الغلظة والشدة فعليك بها، وإذا كان الأمر بالعكس فعليك باللين والرفق، وإذا دار الأمر بين اللين والرفق أو الشدة والعنف فعليك باللين والرفق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّ اللهَ رَفِيْقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ) أخرجه البخاري ومسلم

عاشراً: يتحقق اكتساب الخلق الحسن بأمور

الأول: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في حسن خلقه ولقد أمرنا الله عز وجل بذلك إذ قال (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ووصفه الله بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم

الثاني: صحبة الأتقياء والعلماء وذوي الأخلاق الفاضلة ومجانبة الأِشرار وذوي الأفعال الدنيئة قال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم

الثالث: من مكارم الأخلاق من حسن الخلق صلة الرحم والعفو والصفح والعطاء رغم المنع

الرابع: من حسن الخلق بشاشة الوجه والحلم والتواضع والتودد إلى الناس وعدم سوء الظن وكف الأذى عنهم قال صلى الله عليه وسلم (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) رواه مسلم أي متهلل بالابتسام والبشر، وقال (فليمسك عن الشر فإنه له صدقة) أخرجه البخاري ومسلم

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1437/3/16 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر