قصة هود عليه السلام

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 22 محرم 1437هـ | عدد الزيارات: 1793 القسم: قصص الأنبياء -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام ذكره ابن جرير ، وكانوا عربا يسكنون الأحقاف ، وهي جبال الرمل ، وكانت باليمن من عمان وحضرموت بأرض مطلة على البحر يقال لها : الشحر ، واسم واديهم مغيث ، وكانوا كثيرا ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام ، كما قال تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد الفجر : 6 ، 7 أي ; عاد إرم وهم عاد الأولى ، وأما عاد الثانية فمتأخرة، وأما عاد الأولى فهم عاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد الفجر : 7 8 أي ; مثل القبيلة

وفي صحيح ابن حبان ، عن أبي ذر في حديثه الطويل في ذكر الأنبياء والمرسلين قال فيه : منهم أربعة من العرب ; هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك يا أبا ذر ويقال : إن هودا عليه السلام أول من تكلم بالعربية وزعم وهب بن منبه أن أباه أول من تكلم بها وقال غيره أول من تكلم بها نوح وقيل آدم وهو الأصح وقد رجح ذلك القرطبي في تفسيره مستدلاً بقول الله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) وعليه فإن هود عليه السلام وأبيه ونوح وآدم كانوا يتكلمون اللغة العربية

ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام : العرب العاربة وهم قبائل كثيرة منهم ; عاد ، وثمود ، وجرهم ، وطسم ، وجديس ، وأميم ، ومدين ، وعملاق ، وعبيل ، وجاسم ، وقحطان ، وبنو يقطن ، وغيرهم وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة ، وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم، وقد أنطقه الله بها في غاية الفصاحة والبيان ، وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم

والمقصود أن عادا وهم عاد الأولى كانوا أول من عبد الأصنام بعد الطوفان ، وكانت أصنامهم ثلاثة ، صد ، وصمود ، وهرا فبعث الله فيهم أخاهم هودا عليه السلام فدعاهم إلى الله ، كما قال تعالى بعد ذكر قوم نوح ، وما كان من أمرهم في سورة الأعراف : وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين الأعراف : 65 - 72

وقال تعالى بعد ذكر قصة نوح في سورة هود : وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود هود : 50 - 60

وقال تعالى في سورة : قد أفلح المؤمنون بعد قصة قوم نوح : ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين المؤمنون : 31 - 41 وقال تعالى في سورة الشعراء بعد قصة قوم نوح أيضا : كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم وقال تعالى في سورة حم السجدة : وأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون فصلت : 15 - 16 وقال تعالى في سورة الأحقاف : واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين الأحقاف : 21 - 25 وقال تعالى في الذاريات : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم الذاريات : 41 - 42 وقال تعالى في النجم : وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى فبأي آلاء ربك تتمارى النجم : 50 - 55

وقال تعالى في سورة اقتربت : كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر القمر : 18 - 22 وقال في الحاقة : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية الحاقة : 6 - 8 وقال في سورة الفجر : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد الفجر : 6 - 14

والمقصود أن عادا كانوا عربا جفاة كافرين ، عتاة متمردين في عبادة الأصنام ، فأرسل الله فيهم رجلا منهم يدعوهم إلى الله ، وإلى إفراده بالعبادة ، والإخلاص له ، فكذبوه وخالفوه وتنقصوه فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، فلما أمرهم بعبادة الله ، ورغبهم في طاعته واستغفاره ، ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة ، وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة : قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة الأعراف 66 أي ; هذا الأمر الذي تدعونا إليه سفه بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الأصنام التي يرتجى منها النصر والرزق ، ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك أن الله أرسلك قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين الأعراف : 67 أي ; ليس الأمر كما تظنون ، ولا ما تعتقدون أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين الأعراف : 68 والبلاغ يستلزم عدم الكذب في أصل المبلغ ، وعدم الزيادة فيه والنقص منه ، ويستلزم إبلاغه بعبارة فصيحة وجيزة جامعة مانعة ، لا لبس فيها ولا اختلاف ولا اضطراب ، وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه ، والشفقة عليهم والحرص على هدايتهم ، لا يبتغي منهم أجرا ، ولا يطلب منهم جعلا ، بل هو مخلص لله عز وجل في الدعوة إليه ، والنصح لخلقه لا يطلب أجره إلا من الذي أرسله فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه ، وأمره إليه ، ولهذا قال : يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون هود : 51 أي ; ما لكم عقل تميزون به وتفهمون أني أدعوكم إلى الحق المبين الذي تشهد به فطركم التي خلقتم عليها ، وهو دين الحق الذي بعث الله به نوحا ، وأهلك من خالفه من الخلق ، وها أنا أدعوكم إليه ، ولا أسألكم أجرا عليه ، بل أبتغي ذلك عند الله مالك الضر والنفع ، ولهذا قال مؤمن يس : اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون يس : 21 - 22 وقال قوم هود له فيما قالوا : يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء هود : 53 يقولون : ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق ما جئت به وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك بلا دليل أقمته ، ولا برهان نصبته ، وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه ، وعندنا ; إنما أصابك هذا أن بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك فاعتراك جنون بسبب ذلك ، وهو قولهم : إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون هود : 54 - 55 وهذا تحد منه لهم ، وتبرؤ من آلهتهم ، وتنقص منه لها ، وبيان أنها لا تنفع شيئا ولا تضر ، وأنها جماد حكمها حكمه ، وفعلها فعله ، فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر وتنفع وتضر ، فها أنا بريء منها لاعن لها فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون أنتم وهي جميعا بجميع ما يمكنكم أن تصلوا إليه ، وتقدروا عليه ، ولا تؤخروني ساعة واحدة ، ولا طرفة عين فإني لا أبالي بكم ، ولا أفكر فيكم ، ولا أنظر إليكم إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم أي ; أنا متوكل على الله ومتأيد به وواثق بجنابه الذي لا يضيع من لاذ به واستند إليه ، فلست أبالي مخلوقا سواه ، ولست أتوكل إلا عليه ، ولا أعبد إلا إياه ، وهذا وحده برهان قاطع على أن هودا عبد الله ورسوله ، وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله ; لأنهم لم يصلوا إليه بسوء ، ولا نالوا منه مكروها ، فدل على صدقه فيما جاءهم به وبطلان ما هم عليه ، وفساد ما ذهبوا إليه ، وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه السلام قبله في قوله : يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون يونس : 71 وهكذا قال الخليل عليه السلام : ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم الأنعام : 80 - 83 وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون المؤمنون : 33 - 35

استبعدوا أن يبعث الله رسولا بشريا ، وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة قديما وحديثا ، كما قال تعالى : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس يونس : 2 وقال تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا الإسراء : 94 - 95 ولهذا قال لهم هود عليه السلام : أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم أي ; ليس هذا بعجيب فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته وقوله : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين المؤمنون : 35 - 39 استبعدوا المعاد وأنكروا قيام الأجساد بعد صيرورتها ترابا وعظاما ، وقالوا : هيهات هيهات أي ; بعيد بعيد هذا الوعد إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين أي ; يموت قوم ويحيا آخرون وهذا هو اعتقاد الدهرية

وقال لهم فيما وعظهم به : أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون يقول لهم : أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عظيما هائلا كالقصور ، ونحوها تعبثون ببنائها ; لأنه لا حاجة لكم فيه ، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يسكنون الخيام ، كما قال تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد فعاد إرم هم عاد الأولى الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام

وقوله : وتتخذون مصانع هي مآخذ الماء لعلكم تخلدون أي ; رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار أعمارا طويلة وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وقالوا له فيما قالوا : أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين أي ; أجئتنا لنعبد الله وحده ، ونخالف آباءنا وأسلافنا ، وما كانوا عليه فإن كنت صادقا فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال ، فإنا لا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نصدقك ، كما قالوا : سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين أما على قراءة فتح الخاء فالمراد به اختلاق الأولين أي ; أن هذا الذي جئت به إلا اختلاق منك ، وأخذته من كتب الأولين هكذا فسره غير واحد من الصحابة ، والتابعين ، وأما على قراءة ضم الخاء واللام فالمراد به الدين أي ; إن هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الآباء والأجداد من أسلافنا ، ولن نتحول عنه ولا نتغير ولا نزال متمسكين به ويناسب كلا القراءتين الأولى والثانية قولهم : وما نحن بمعذبين قال : قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين أي ; قد استحقيتم بهذه المقالة الرجس ، والغضب من الله أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له بعبادة أصنام أنتم نحتموها ، وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان أي ; لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليلا ولا برهانا ، وإذا أبيتم قبول الحق وتماديتم في الباطل ، وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه أم لا ، فانتظروا الآن عذاب الله الواقع بكم ، وبأسه الذي لا يرد ، ونكاله الذي لا يصد وقال تعالى : قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين وقال تعالى : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين وقد ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم في غير ما آية ، كما تقدم مجملا ومفصلا كقوله : فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين وكقوله : ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود وكقوله : فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين وقال تعالى : فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم

وأما تفصيل إهلاكهم ; فلما قال تعالى : فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب أنهم كانوا ممحلين مسنتين فطلبوا السقيا ، فرأوا عارضا في السماء وظنوه سقيا رحمة فإذا هو سقيا عذاب ، ولهذا قال تعالى : بل هو ما استعجلتم به أي ; من وقوع العذاب وهو قولهم : فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ومثلها في الأعراف

وقد ذكر المفسرون وغيرهم الخبر الذي ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار قال : فلما أبوا إلا الكفر بالله عز وجل أمسك عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك قال : وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان فطلبوا من الله الفرج منه إنما يطلبونه بحرمه ومكان بيته وكان معروفا عند أهل ذلك الزمان ، وبه العماليق مقيمون وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له معاوية بن بكر ، وكانت أمه من قوم عاد ، واسمها : جلهدة ابنة الخيبري قال : فبعث عاد وفدا قريبا من سبعين رجلا ليستقوا لهم عند الحرم ، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر تغنيهم الجرداتان قينتان لمعاوية وكانوا قد وصلوا إليه في شهر ، فلما طال مقامهم عنده ، وأخذته شفقة على قومه ، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف ، عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف ، وأمر القينتين أن تغنيهم به ، فقال

ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما فيسقي أرض عاد إن عادا
قد أمسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو
به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير
فقد أمست نساؤهم عياما وإن الوحش يأتيهم جهارا
ولا يخشى لعادي سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم
نهاركم وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قوم
ولا لقوا التحية والسلاما

قال : فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له ، فنهضوا إلى الحرم ودعوا لقومهم فدعا داعيهم ، وهو قيل بن عتر فأنشأ الله سحابات ثلاثا ; بيضاء ، وحمراء ، وسوداء ثم ناداه مناد من السماء : اختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب فقال : اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد : اخترت رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا لا والدا تترك ولا ولدا ، إلا جعلته همدا ، إلا بني اللوذية المهدا قال : وهو بطن من عاد كانوا مقيمين بمكة فلم يصبهم ما أصاب قومهم قال : ومن بقي من أنسابهم وأعقابهم هم عاد الآخرة قال : وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل بن عتر بما فيها من النقمة إلى عاد حتى تخرج عليهم من واد يقال له : المغيث ، فلما رأوها استبشروا ، وقالوا : هذا عارض ممطرنا فيقول تعالى : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها أي ; كل شيء أمرت به فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها : مهد ، فلما تبينت ما فيها صاحت ، ثم صعقت ، فلما أفاقت قالوا : ما رأيت يا مهد ؟ قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النار ، أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما والحسوم : الدائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك قال : واعتزل هود عليه السلام في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين ، ما يصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود ، وتلتذ الأنفس ، وإنها لتمر على عاد بالظعن فيما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة

وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور

وروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح ، قال : اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ، وشر ما أرسلت به قالت : وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت سري عنه ، فعرفت ذلك عائشة فسألته ، فقال : لعله يا عائشة كما قال قوم عاد : فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا

وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه ذكر صفة قبر هود عليه السلام في بلاد اليمن

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين

22-1-1437 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
روابط ذات صلة
الدرس السابق
الدروس الكتابية المتشابهة الدرس التالي