قصة يونس عليه الصلاة والسلام

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 14 محرم 1437هـ | عدد الزيارات: 1736 القسم: قصص الأنبياء -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قال الله تعالى في سورة " يونس " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين يونس : 98 وقال تعالى في سورة " الأنبياء " : وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين الأنبياء : 87 ، 88 وقال تعالى في سورة " الصافات " وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين الصافات : 139 - 148 وقال تعالى في سورة " نون " : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين القلم : 48 - 50 قال أهل التفسير : بعث الله يونس ، عليه السلام ، إلى أهل نينوى ; من أرض الموصل بالعراق

وللفائدة: نينوى تقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة شرق جنوب مدينة الموصل

فدعاهم إلى الله عز وجل ، فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم ، فلما طال ذلك عليه من أمرهم ، خرج من بين أظهرهم ، ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث قال ابن مسعود ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف : فلما خرج من بين ظهرانيهم وتحققوا نزول العذاب بهم ، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة ، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم ، فلبسوا المسوح ، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ، ثم عجوا إلى الله عز وجل ، وصرخوا وتضرعوا إليه ، وتمسكنوا لديه ، وبكى الرجال والنساء ، والبنون والبنات ، والأمهات ، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي ، ورغت الإبل وفصلانها ، وخارت البقر وأولادها ، وثغت الغنم وحملانها ، وكانت ساعة عظيمة هائلة ، فكشف الله العظيم ، بحوله وقوته ، ورأفته ورحمته ، عنهم العذاب الذي كان قد اتصل بهم بسببه ، ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم ; ولهذا قال تعالى فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها أي ; هلا وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها فدل على أنه لم يقع ذلك ، بل كما قال تعالى وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون سبأ : 34 وقوله : إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين أي ; آمنوا بكمالهم

هل ينفعهم هذا الإيمان في الدار الآخرة ، فينقذهم من العذاب الأخروي ، كما أنقذهم من العذاب الدنيوي؟

الأظهر من السياق : نعم كما قال تعالى : لما آمنوا وقال تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين وهذا المتاع إلى حين لا ينفي أن يكون معه غيره من رفع العذاب الأخروي والله أعلم

وقد كانوا مائة ألف لا محالة واختلفوا في الزيادة ; فعن مكحول : عشرة آلاف وعن ابن عباس : كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا وعنه ، وبضعة وثلاثين ألفا وعنه ، وبضعة وأربعين ألفا وقال سعيد بن جبير كانوا مائة ألف وسبعين ألفا

والمقصود أنه ، عليه السلام ، لما ذهب مغاضبا بسبب قومه ، ركب سفينة في البحر ، فلجت بهم واضطربت ، وماجت بهم وثقلت بما فيها ، وكادوا يغرقون ، على ما ذكره المفسرون ، قالوا : فتشاوروا فيما بينهم على أن يقترعوا ، فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ; ليتخففوا منه ، فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس ، فلم يسمحوا به ، فأعادوها ثانية فوقعت عليه أيضا ، فشمر ليخلع ثيابه ويلقي بنفسه ، فأبوا عليه ذلك ، ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضا ; لما يريده الله به من الأمر العظيم ، قال الله تعالى : وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ، ألقي في البحر ، وبعث الله ، عز وجل ، حوتا عظيما من البحر الأخضر فالتقمه ، وأمره الله تعالى : أن لا تأكل له لحما ، ولا تهشم له عظما ، فليس لك برزق ، فأخذه فطاف به البحار كلها قالوا : ولما استقر في جوف الحوت ، حسب أنه قد مات ، فحرك جوارحه فتحركت ، فإذا هو حي ، فخر لله ساجدا ، وقال : يا رب ، اتخذت لك مسجدا لم يعبدك أحد في مثله

ومقدار لبثه في بطنه قال سعيد بن أبي الحسن ، وأبو مالك : مكث في جوفه أربعين يوما والله أعلم كم مقدار ما لبث فيه

والمقصود أنه لما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجية ، ويقتحم به لجج الموج الأجاجي ، فسمع تسبيح الحيتان للرحمن ، وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق الحب والنوى ، ورب السماوات السبع ، والأرضين السبع ، وما بينها ، وما تحت الثرى ، فعند ذلك وهنالك قال ما قال بلسان الحال والمقال ، كما أخبر عنه ذو العزة والجلال ، الذي يعلم السر والنجوى ، ويكشف الضر والبلوى ، سامع الأصوات وإن ضعفت ، وعالم الخفيات وإن دقت ، ومجيب الدعوات وإن عظمت ، حيث قال في كتابه المبين ، المنزل على رسوله الأمين ، وهو أصدق القائلين ، ورب العالمين ، وإله المرسلين : وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين

فظن أن لن نقدر عليه أي ; نضيق

فنادى في الظلمات قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وعمرو بن ميمون ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل ومعناه : فلولا أنه كان من قبل أخذ الحوت له من المسبحين أي ; المطيعين المصلين الذاكرين الله كثيرا قاله الضحاك بن قيس ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ووهب بن منبه ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والسدي ، وعطاء بن السائب ، والحسن البصري ، وقتادة ، وغير واحد واختاره ابن جرير ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي : يا غلام ، إني معلمك كلمات ; احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وروى ابن جرير في " تفسيره " ، والبزار في " مسنده " ، من حديث محمد بن إسحاق عن أبي هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت ، أوحى الله إلى الحوت ، أن خذ ولا تخدش لحما ، ولا تكسر عظما فلما انتهى به إلى أسفل البحر ، سمع يونس حسا ، فقال في نفسه : ما هذا ؟ فأوحى الله إليه ، وهو في بطن الحوت : إن هذا تسبيح دواب البحر قال فسبح وهو في بطن الحوت ، فسمعت الملائكة تسبيحه ، فقالوا يا ربنا ، إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة قال ذلك عبدي يونس ، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال : نعم قال : فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل ، كما قال الله تعالى وهو سقيم هذا لفظ ابن جرير إسنادا ومتنا ثم قال البزار : لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد ، كذا قال

وقد قال الله تعالى : فنبذناه أي ; ألقيناه بالعراء وهو المكان القفر الذي ليس فيه شيء من الأشجار ، بل هو عار منها وهو سقيم أي ; ضعيف البدن قال ابن مسعود : كهيئة الفرخ ، ليس عليه ريش وقال ابن عباس ، والسدي ، وابن زيد : كهيئة الصبي حين يولد ، وهو المنفوس ، ليس عليه شيء وأنبتنا عليه شجرة من يقطين قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، ووهب بن منبه ، وهلال بن يساف ، وعبد الله بن طاوس ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وغير واحد : هو القرع

قال بعض العلماء : في إنبات القرع عليه حكم جمة ; منها أن ورقه في غاية النعومة ، وكثير وظليل ، ولا يقربه ذباب ، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره ، نيئا ومطبوخا ، وبقشره وببزره أيضا ، وفيه نفع كثير ، وتقوية للدماغ ، وغير ذلك وذكر أبو هريرة في تسخير الله تعالى له تلك الأروية التي كانت ترضعه لبنها ، وترعى في البرية ، وتأتيه بكرة وعشية وهذا من رحمة الله به ، ونعمته عليه ، وإحسانه إليه ، ولهذا قال تعالى فاستجبنا له ونجيناه من الغم أي ; الكرب والضيق الذي كان فيه وكذلك ننجي المؤمنين أي ; وهذا صنيعنا بكل مؤمن دعانا واستجار بنا

وروى ابن جرير عن سعد بن مالك وهو ابن أبي وقاص يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اسم الله الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، دعوة يونس بن متى قال : فقلت : يا رسول الله ، هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال هي ليونس خاصة ، وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول الله تعالى : فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين فهو شرط من الله لمن دعاه به وروى ابن أبي حاتم عن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا بدعاء يونس استجيب له قال أبو سعيد الأشج : يريد به وكذلك ننجي المؤمنين وهذان طريقان عن سعد

وروى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص - قال : مررت بعثمان بن عفان في المسجد ، فسلمت عليه ، فملأ عينيه مني ثم لم يردد علي السلام ، فأتيت عمر بن الخطاب ، فقلت : يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء ؟ مرتين قال : لا ، وما ذاك ؟ قلت : لا ، إلا أني مررت بعثمان آنفا في المسجد ، فسلمت عليه ، فملأ عينيه مني ، ثم لم يردد علي السلام قال : فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه ، فقال : ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام ؟ قال : ما فعلت قال سعد : قلت : بلى حتى حلف وحلفت قال : ثم إن عثمان ذكر ، فقال : بلى ، وأستغفر الله وأتوب إليه ، إنك مررت بي آنفا ، وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا والله ، ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة قال سعد : فأنا أنبئك بها ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة ، ثم جاء أعرابي فشغله ، حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته ، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ، ضربت بقدمي الأرض ، فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : من هذا ؟ أبو إسحاق ؟ قال : قلت : نعم ، يا رسول الله قال : فمه؟ قلت : لا والله ، إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة ، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك قال : نعم ، دعوة ذي النون ; إذ هو في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له ورواه الترمذي ، والنسائي ، من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد

قال الله تعالى : وإن يونس لمن المرسلين الصافات : 139 وذكره تعالى في جملة الأنبياء الكرام ، في سورتي " النساء " و " الأنعام " ، عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام

وروى الإمام أحمد عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي لأحد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري وروى البخاري عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما ينبغي لعبد أن يقول : إني خير من يونس بن متى ونسبه إلى أبيه ورواه أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، من حديث شعبة قال شعبة فيما حكاه أبو داود عنه : لم يسمع قتادة من أبي العالية سوى أربعة أحاديث ، هذا أحدها وقد رواه الإمام أحمد عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : وما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى تفرد به أحمد

ورواه الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ينبغي لأحد أن يقول : أنا عند الله خير من يونس بن متى إسناده جيد ، ولم يخرجوه

وروى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى وكذا رواه مسلم من حديث شعبة وروى " البخاري " و " مسلم " عن أبي هريرة ، في قصة المسلم الذي لطم وجه اليهودي حين قال : لا والذي اصطفى موسى على العالمين قال البخاري في آخره : ولا أقول : إن أحدا خير من يونس بن متى أي ; ليس لأحد أن يفضل نفسه على يونس وفي رواية : لا ينبغي لأحد أن يفضلني على يونس بن متى كما قد ورد في بعض الأحاديث : لا تفضلوني على الأنبياء ، ولا على يونس بن متى وهذا من باب الهضم والتواضع منه ، صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى سائر أنبياء الله والمرسلين

وبالله التوفيق

25-12-1436 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 6 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 122 ‌‌مكانة المرأة في الإسلام - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 121 الجزء الثالث عوامل النصر  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر