الدرس العشرون: الاقتصار على الحلال الطيب

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 13 محرم 1437هـ | عدد الزيارات: 1681 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ الله تعالى طيبٌّ لا يقبل إلا طيباً، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ثم ذكر الرجل يطيل السَّفرَ أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء يا ربُّ يا ربُّ، ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذي بالحرام، فأنى يُستجابُ له) رواه مسلم

أهمية الحديث

هذا الحديث من الأحاديث التي عليها قواعد الإسلام ومباني الأحكام، وعليه العمدة في تناول الحلال وتجنب الحرام، فما أعم نفعه وأعظمه في إيجاد المجتمع المؤمن الذي يحبُّ فيه الفرد لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره لأخيه ما يكره لنفسه، ويقف عند حدود الشرع مكتفياً بالحلال المبارك الطيب، فيحيا هو وغيره في طمأنينة ورخاء

الشرح

قوله صلى الله عليه وسلم (إن اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ) كلمة طيب بمعنى طاهر منزّه عن النقائص، لايعتريه الخبث بأي حال من الأحوال، لأن ضد الطيب هو الخبيث، لقول الله تعالى (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) وقوله (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَات) ومعنى ذلك أنه لا يلحقه جل وعلا شيء من العيب والنقص. فهو سبحانه طيب في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأحكامه، وأفعاله، وفي كل ما يصدر منه، وليس فيها رديء بأي وجه

قوله صلى الله عليه وسلم (لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبَاً) أي الطيب من الأقوال، والأعمال وعكس الطيب الرديء فهو مردودٌ عند الله عزّ وجل، مثل الصدقة بالمال الخبيث لا يقبلها الله عزّ وجل، لأنه لايقبل إلا طيباً لذا جاء في الحديث الصحيح (مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ طَيِّبٍ وَلاَ يَقْبَلُ اللهَ إِلاَّ الطَّيِّبَ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْخُذُهَا بِيَمِيْنِهِ يُرَبِّيها كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُوْنَ مِثْلَ الجَبَلِ) أخرجه البخاري ومسلم، والفَلُوَّهُ جَحْش أو مُهْر فُطم أو بلغ السَّنة

فالطّيب من الأعمال ما كان خالصاً صواباً أي خالصاً لله، موافقاً للشريعة

والطيب من الأموال ما اكتسب عن طريق حلال، وأما ما اكتسب عن طريق محرّم فإنه خبيث
فقوله صلى الله عليه وسلم (طيباً) يشمل الطيب بعينه والطيب بكسبه

مسألة:

رجل يتصدق مما اكتسبه على وجه حرام هل تقبل الصدقة

الجواب: إن تصدق به تقرباً إلى الله لم تقبل منه ولم يسقط عنه إثم الكسب الحرام وإن تصدق به تخلصاً منه سلم من الإثم ولا تقبل منه

مسألة

رجل بنى مسجد من أموال ربوية أيصلى فيه؟

الجواب: نعم ويخفف الله عليه من الإثم إذا نوى بذلك التخلص من الربا

قوله صلى الله عليه وسلم (وَإنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنِينَ بمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِيْنَ) هذه تَعْلَية لشأن المؤمنين، وأنهم أهلٌ أن يوجّه إليهم ما أمر به الرسل، فقال في أمر المرسلين (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً) قوله صلى الله عليه وسلم (واعملوا صالحاً) صالح العمل هو ما جمع بين الإخلاص والمتابعة

قوله صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ.....) السفر من أسباب إجابة الدعاء، ومد اليدين إلى السماء من أسباب إجابة الدعاء، كما جاء في الحديث (إنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيْمٌ يَسْتَحِييْ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفعَ يَديْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرَاً) أخرجه أبو داوود والترمذي وحسنه الحافظ في الفتح

قوله صلى الله عليه وسلم (يَا رَبّ يَا رَبّ) نداء بوصف الربوبية، لأن ذلك وسيلة لإجابة الدعاء

قوله صلى الله عليه وسلم (َمَطْعَمُهُ حَرَام وَمَشرَبُهُ حَرَامٌ) أي حرام لذاته أو لكسبه

قوله صلى الله عليه وسلم (وغُذِيَ بالحَرَامِ) يعني أنه تغذّى بالحرام الحاصل من فعل غيره.

قال النووي شُبع به والنووي عالم باللغة العربية والرواية.

قوله صلى الله عليه وسلم (فَأَنَّى يستجاب له) اسم استفهام لاستبعاد الإجابة يعني من أين يستجاب لمن هذه صفته فإنه ليس أهلاً للإجابة

من فوائد الحديث

أولاً: أن من أسماء الله تعالى الطيّب، لقوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللهَ تعالى طَيِّبٌ) وهذا يشمل طِيب ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه فأسماء الله كلّها حسنى، وهو سبحانه وتعالى طيب في صفاته فمثلاً: القدرة والسمع، والبصر، والتكلم، كل هذه صفات طيبة يتصف الله تعالى بها قال الله تعالى (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) أي الوصف الأعلى من كل وجه

ثانياً: كماله عز وجل في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه

ثالثاً: أن الله تعالى غنيّ عن الخلق فلا يقبل إلا الطيب، لقوله صلى الله عليه وسلم (لايَقبَلُ إلاَّ طَيِّبَاً) فلا يقبل الله العمل الذي فيه شرك ولا التصدق بالمال المسروق ولا بالمال المحرم لعينه

رابعاً: تقسيم الأعمال إلى مقبول ومردود مثال المقبول قوله صلى الله عليه وسلم (لاَ يَقْبَلُ الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وفي المردود قوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم

خامساً: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام يؤمرون وينهون، لقوله صلى الله عليه وسلم (وإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرسَلِيْنَ) والرسل عليهم الصلاة والسلام أكمل العباد عبادة لله عزّ وجل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورّم قدماه، فعن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقالت عائشة لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا

سادساً: أن المؤمنين مأمورون منهيون لقوله صلى الله عليه وسلم (وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرسَلِينَ) وكلما كان الإنسان أقوى إيماناً كان أكثر امتثالاً لأمر الله عزّ وجل

سابعاً: الأمر بالأكل من الطيبات للمؤمنين والمرسلين لقوله: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً) والامتناع عن الطيبات لغير سبب شرعي مذموم مثال على السبب الشرعي المرضى.

ثامناً: أنه يجب شكر نعمة الله عزّ وجل بالعمل الصالح لقوله تعالى (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً) وفي المؤمنين قال: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّه) فالله أمر بالأكل من الطيبات مع العمل الصالح قولاً وفعلاً

تاسعاً: تحريم الخبائث، لقوله (مِنْ الطَيِّبَاتِ) وهو عكس الخبائث والخبيث ما استخبثه الشرع.

عاشراً: استبعاد إجابة دعوة آكل الحرام ولو عمل من أسباب الإجابة ما عمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر اشعث أي جعد شعر الرأس أغبر أي غير الغبار لون شعره لطول سفره في الطاعات كحج وجهاد

الحادي عشر: من أسباب إجابة الدعاء السفر لقوله صلى الله عليه وسلم (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة الوالد على ولده ودعوة المسافر ودعوة المظلوم) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي

الثاني عشر: أن هذا الرجل الذي يطيل السفر في الطاعات أشعث أغبر لم ينفعه ذلك بسبب أكله وشربه الحرام

الثالث عشر: أن رفع اليدين في الدعاء من أسباب الإجابة ويكون الرفع بضم اليدين إلى بعضهما مع بسطهما ويكون ظهرهما إلى الأرض وباطنهما إلى السماء وموضعهما حذو الصدر وكلما بالغت في الابتهال فبالغ في الرفع

ويشرع رفع اليدين إذا دعا الخطيب باستسقاء أو استصحاء وفي قنوت النوازل والوتر وعلى الصفا والمروة وفي عرفة وما أشبه ذلك، غير أنه لا يشرع رفع اليدين حال خطبة الجمعة في غير الاستسقاء والاستصحاء وبعد الفريضة

الرابع عشر: أن من أسباب إجابة الدعاء التوسل إلى الله تعالى بالربوبية لقوله: يا رب يا رب

الخامس عشر: التحذير البالغ من أكل الحرام لأن أكل الحرام من أسباب رد الدعاء وإن توفرت أسباب الإجابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فأنى يستجاب لذلك) مع أن أكل الحرام سبب لانصراف الإنسان عن القيام بواجب الدين لأن البدن يكون متغذياً على شيء فاسد فيؤثر عليه

إضافة إلى العقوبة الأخروية لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ،(لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ) رواه أحمد وإسناده جيد

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين

13-1-1437 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 122 ‌‌مكانة المرأة في الإسلام - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 121 الجزء الثالث عوامل النصر  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر