ﺟﺪﻳﺪ اﻟﻤﻮﻗﻊ

الدرس التاسع عشر: التكليف بما يستطاع

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 13 محرم 1437هـ | عدد الزيارات: 2850 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

عن أبي هريرةَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ صَخْرٍ رضي الله عنه قال:سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول (ما نَهَيْتُكُمْ عنهُ فاجتَنِبوهُ، وما أمرْتُكُمْ بهِ فأتُوا منهُ ما اسْتَطَعْتُمْ، فإنَّما أهلكَ الذينَ منْ قبلِكُمْ كثرةُ مسائلهمْ واختلافُهُمْ على أنبيائِهِمْ) رواه البخاري ومسلم

لفظ هذا الحديث في كتاب مسلم عن أبي هريرة (قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس قد فرض الحج عليكم فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) والرجل الذي سأله هو الأقرع بن حابس كذا جاء مبيناً في غير هذه الرواية

أهميته:

لقد ذكر العلماء أن هذا الحديث ذو أهمية بالغة وفوائد جلى، تجعله جديراً بالحفظ والبحث

قال النووي في شرح مسلم عند الكلام عنه: هذا من قواعد الإسلام المهمة،ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام

وقال ابن حجر الهيتمي في شرحه للأربعين: وهو حديث عظيم من قواعد الدين وأركان الإسلام، فينبغي حفظه والاعتناء به

ومثل هذا قال غيرهما من الشرَّاح الذين تناولوا بالشرح والبيان وتكمن أهمية هذا الحديث، فيما يوجه إليه من التزام شرع الله عز وجل، الذي لا يخلو أن يكون أمراً أو نهياً، وما ينبه إليه من ضرورة الوقوف عند حدود ما بيَّنه كتاب الله تعالى، وما فصَّلته سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، دون إفراط أو تفريط، ودون شطط أو تقصير

الشرح

قوله صلى الله عليه وسلم (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ) النهي طلب الكفّ على وجه الاستعلاء، يعني أن يطلب منك من هو فوقك ولو باعتقاده أن تكفّ، فهذا نهي ولهذا قال أهل أصول الفقه النهي طلب الكفّ على وجه الاستعلاء ولو حسب دعوى الناهي، يعني وإن لم يكن عالياً على المنهي

ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلى منّا حقيقة

(مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوْهُ) الجملة شرطية، فـ: (ما) اسم شرط، (نهيتكم) فعل الشرط

وقوله صلى الله عليه وسلم (فاجتنبوه) جواب الشرط، وقرنت بالفاء لأنها إحدى الجمل المنظومة في قول القائل: (المقدمة الآجرومية)
إسمية، طلبية، وبجامدٍ .... وبما وقد وبلن وبالتنفيس
قوله صلى الله عليه وسلم (فَاجْتَنِبُوهُ) أي ابتعدوا عنه، فكونوا في جانب وهو في جانب
قوله صلى الله عليه وسلم (وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) هذه الجملة أيضاً شرطية، فعل الشرط فيها (أمرتكم به) وجوابه (فأتوا منه ما استطعتم) يعني افعلوا منه ما قدرتم عليه

والفرق بين المنهيات والمأمورات: أن المنهيّات قال فيها: فَاجْتَنِبُوهُ ولم يقل ما استطعتم، لأن النهي كف وكل إنسان يستطيعه، وأما المأمورات فإنها إيجاد قد لا يستطاع، ولهذا قال في الأمر: فأتُوا مِنْهُ مَا استَطَعتُمْ

قوله صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّمَا أهلك) (إن) للتوكيد، و (ما) اسم موصول

قوله صلى الله عليه وسلم (الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يشمل اليهود والنصارى وغيرهما، واليهود أشد في كثرة المساءلة التي يهلكون بها ولذلك لما قال لهم نبيهم موسى عليه السلام إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة جعلوا يسألون ما هي وما لونها وعملها فيشددون ويشدد الله عليهم

قوله صلى الله عليه وسلم (كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ) جمع مسألة وهي: ما يُسأل عنه

وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ أي أهلكهم اختلافهم، وذلك بالمعارضة والمخالفة لأن كلمة (على) تفيد أن هناك معارضة للأنبياء

فوائد الحديث:

أولاً: وجوب الكفّ عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ) والمنهي عنه يشمل القليل والكثير، فمثلاً: نهانا عن الرّبا يشمل قليله وكثيره

ثانياً: الكفّ أهون من الفعل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في المنهيات أن تُجتنب كلّها، لأن الكفّ سهل

ثالثاً: إذا وجدت الضرورة ارتفع التحريم فإن من قواعد أصول الفقه: لا محرم مع الضرورة ولا واجب مع العجز

رابعاً: يجوز فعل المحرم عند الضرورة لقول الله تعالى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ }[الأنعام 119] مثل إذا غص بلقمة وليس عنده إلا خمر فإنه يشربه لدفع اللقمة أما شرب الخمر للعطش فلا يجوز قال أهل العلم لأن الخمر لا يزيد العطشان إلا عطشا فلا تندفع به الضرورة، وكذلك الدواء بالمحرم لا يمكن أن يكون ضرورة لسببين:

الأول: أنه قد يبرأ المريض بدون دواء وحينئذ لا ضرورة

الثاني: قد يتداوى به المريض ولا يبرأ

وقد نص العلماء رحمهم الله على أنه يحرم التداوي بالمحرم

خامساً: لا يجب من فعل المأمور إلا ما كان مستطاعاً لقوله صلى الله عليه وسلم (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) أي لا وجوب إلا مع الاستطاعة لقوله تعالى: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها

سادساً: أن الإنسان إذا لم يقدر على فعل الواجب كله فليفعل ما استطاع فيجب على الإنسان أن يصلي الفريضة قائماً، فإن لم يستطع صلى جالساً، ويبدأ بالصلاة قائماً فإذا تعب جلس إذ مقتضى القواعد أنه يبدأ قائماً فإذا تعب جلس

سابعاً: أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه فإنه شريعة، سواء كان ذلك في القرآن أم لم يكن، فُيعمل بالسنة الزائدة على القرآن أمراً أو نهياً لقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
ثامناً: المشقة تجلب التيسير، هذه قاعدة وضعها الفقهاء ومن أمثلة تطبيق هذه القاعدة العفو عن بعض النجاسات التي يصعب التحرز عنها كدم القروح والدمامل

تاسعاً: الميسور لا يسقط بالمعسور هذه قاعدة فقهية استنبطها الفقهاء ومن أمثلة هذه القاعدة أنه إذا وجد المحدث الماء لا يكفي لرفع حدثه، وجب عليه استعماله في بعض أعضائه ويتيمم عن الباقي ولا يصح تيممه قبل استعمال الماء في بعض أعضائه

عاشراً: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح هذه قاعدة فقهية وضعها الفقهاء استنباطاً مما تقرر لديهم ومن تطبيقات هذه القاعدة منع المرأة من العمل ولو كان فيه نفع لها إذا كان فيه اختلاط مع الرجال أو خلوة بهم دفعاً لما ينتج عن ذلك غالباً من مفسدة الفجور والوقوع في الرذيلة بل ويمنع الرجل أيضاً من مثل هذا العمل

الحادي عشر: أن كثرة المسائل سبب للهلاك ولاسيّما في الأمور التي لا يمكن الوصول إليها مثل مسائل الغيب كأسماء الله وصفاته، وأحوال يوم القيامة، لا تكثر السؤال فيها فتهلك، وتكون متنطّعاً متعمّقاً، وأما ما يحتاج الناس إليه من المسائل الفقهية فلا حرج من السؤال عنها مع الحاجة إلى ذلك مثل أحكام الطهارة والصلاة وأحكام الصوم والزكاة والحج وأحكام البيع والشراء والمعاملات والزواج والجهاد لا أن يسأل عما أخفاه الله تعالى عن عباده كالسؤال عن وقت قيام الساعة وحقيقة الروح وماهيتها فالأمم السابقة هلكوا بكثرة المساءلة وكثرة الاختلاف على أنبيائهم

الثاني عشر: التحذير من الاختلاف على الأنبياء والحث على الوحدة وأن الواجب على المسلم أن يوافق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن يعتقدهم أئمة وأنهم عبيد من عباد الله أكرمهم الله بالرسالة وأن خاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى جميع الناس قال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام

الثالث عشر: جزاء من فارق الجماعة وسبب الفرقة والاختلاف قال تعالى: ومن يشاقق الله من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً

الرابع عشر: التمسك بشرع الله تعالى طريق الوحدة قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون

الخامس عشر: الخطر في اتباع الهوى قال تعالى: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين.

1437/1/13 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 118 الجزء الثالث ‌‌هل الرسول أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه ؟ - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 116 الجزء الثالث حكم التوسل بالموتى وزيارة القبور - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 115 الجزء الثالث ‌‌حكم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 114 الجزء الثالث ‌‌إيضاح الحق في دخول الجني في الإنسي والرد على من أنكر ذلك  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 113 الجزء الثالث : تابع الدروس المهمة لعامة الأمة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر