الدرس الثامن عشر: حرمة المسلم

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 13 محرم 1437هـ | عدد الزيارات: 2105 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

"عن ابن عُمَرَ رضي اللهُ عنهما أنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: أُمرت أَنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حتى يَشْهَدُوا أنْ لا إله إلَّا اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ، ويُقِيموا الصَّلاةَ، ويُؤتُوا الزَّكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منِّي دِماءَهُم وأموالهمْ إلا بحقِّ الإسلامِ، وحسابهم على اللهِ تعالى" رواه البخاري ومسلم

أهمية الحديث:

هذا الحديث عظيم جداً لاشتماله على المهمات من قواعد دين الإسلام وهي الشهادة مع التصديق الجازم بأن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة على الوجه المأمور به، ودفع الزكاة إلى مستحقيها، وقد روى هذا الحديث أنس وقال: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" رواه البخاري

وجاء في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة :"حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به" وأما معاني هذا الحديث فقال العلماء بالسير لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده وكفر من كفر من العرب عزم أبو بكر على قتالهم وكان منهم من منع الزكاة ولم يكفر وتأول في ذلك فقال له عمر رضي الله عنه كيف تقاتل الناس وقد قالوا لا إله إلا الله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله إلى آخر الحديث فقال الصديق إن الزكاة حق المال وقال والله لو منعوني عناقاً وفي رواية عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه فتابعه عمر على قتال القوم وفي بعض النسخ من كفر.

الشرح:

أُمِرْتُ: بالبناء لما لم يسمّ فاعلهُ، لأن الفاعل معلوم وهو الله عزّ وجل، وإبهام المعلوم سائغ لغة واستعمالاً سواء في الأمور الكونية أو في الأمور الشرعية

في الأمور الكونية: قال الله عزّ وجل {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء 28]والخالق هو الله عزّ وجل

وفي الأمور الشرعية: كهذا الحديث "أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِلَ الناس" وكقوله صلى الله عليه وسلم "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاء" رواه البخاري ومسلم

والأمرُ: طلب الفعل على وجه الاستعلاء، أي أن الآمر أو طالب الفعل يرى أنه في منزلة فوق منزلة المأمور، لأنه لو أمر من يساويه سمي التماساً، ولو طلب ممن فوقه سمي دعاءً وسؤالاً

وقوله صلى الله عليه وسلم :"أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ" هذا المأمور به والناس من عبد غير الله من أوثان وغيرها
والمقاتلة غير القتل، فالمقاتلة أن يسعى في جهاد الأعداء حتى تكون كلمة الله هي العليا والقتل أن يقتل شخصاً بعينه، ولهذا نقول ليس كل من جازت مقاتلته جاز قتله، فالقتل أضيق ولا يجوز إلا بشروط معروفة، والمقاتلة أوسع، قال الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه}[الحجرات 9] فأمر بقتالها في حين كونها مؤمنة لا يحل قتلها ولا يباح دمها لكن من أجل الإصلاح

ولذلك أمرت الأمة أن توافق الإمام في قتال أهل البغي الذين يخرجون على الإمام بشبهة، قالوا فإذا قرر الإمام أن يقاتلهم وجب على الرعيّة طاعته وموافقته دفعاً للشر والفساد، وهنا نقاتل مسلمين لأجل إقامة العدل وإزالة الفوضى وقاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة ولكن لم يقتلهم، بل قاتلهم حتى يذعنوا للحق

وللمعلومية من ترك أداء الزكاة جاحداً لوجوبها كفر ويجب قتله ومن تركها تساهلاً لا يكفر فيقاتل ليذعن للحق وليس من أجل قتله بل لإقامة العدل وإزالة الفوضى وهذا سر الخلاف في الرأي بين أبي بكر وعمر فعمر يرى أنهم لا يكفرون لأنهم تركوها تساهلاً وأبو بكر رأى مقاتلتهم لا قتلهم من أجل أن يذعنوا للحق فقنع عمر بقول أبي بكر وبالفعل قاتلهم أبو بكر حتى اذعنوا للحق ورجعوا للصواب فقد استند أبو بكر رضي الله عنه بنص كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا بحق الإسلام وحق الإسلام عدم شق عصا الطاعة وإثارة البلبلة في المجتمع والفوضى والفساد المترتب على ذلك

قوله صلى الله عليه وسلم (حَتَّى يَشْهَدُوا) أي حتى يشهدوا بألسنتهم وبقلوبهم لكن من شهد بلسانه عصم دمه وماله وقلبه إلى الله عز وجل

وقوله صلى الله عليه وسلم (أن لا إله إلا الله) أي لا معبود بحق إلا الله عز وجل فهو الذي عبادته حق وما سواه عبادته باطلة

وَيُقِيْمُوا الصَّلاةَ أي يفعلوها قائمة وقويمة على ماجاءت به الشريعة

وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ أي يعطوها مستحقّها والزكاة: هي النصيب المفروض في الأموال الزكوية ففي الذهب والفضة وعروض التجارة ربع العشر، أي واحد من أربعين وفيما يخرج من الأرض مما فيه الزكاة: نصف العشر إذا كان يسقى بمؤونة، والعشر كاملاً إذا كان يسقى بلا مؤونة

فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهَم وَأَمْوَالَهُم أي فلا يحل أن أقاتلهم وأستبيح دماءهم، ولا أن أغنم أموالهم، لأنهم دخلوا في الإسلام

قوله صلى الله عليه وسلم (إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلامِ) هذا استثناء عام، إلا أن تباح دماؤهم وأموالهم بحق الإسلام، مثل: زنا الثيّب، والقصاص وما أشبه ذلك

وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى أي محاسبتهم على الأعمال على الله تعالى، أما النبي صلى الله عليه وسلم فليس عليه إلا البلاغ

وعليه لا يجوز مقاتلة الناس إلا بهذا السبب

فقه الحديث

أولاً: التناظر بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بشأن قتال مانعي الزكاة، يؤكد ما اجتمعت عليه الأحاديث من قبول الشهادتين للدخول في الإسلام، وقتال المسلمين الممتنعين بشكل جماعي عن أداة الزكاة، ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله عز وجل) فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلنَّ من فرَّقَ بين الصلاة والزكاة، فإنَّ الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق

فأبو بكر الصديق رضي الله عنه استدل على قتال مانعي الزكاة من قوله صلى الله عليه وسلم (إلا بحقه)، وعمر رضي الله عنه ظنَّ أنّ مجرد الإتيان بالشهادتين يعصم الدم في الدنيا، واستدل على ذلك بعموم أول الحديث، ثم رجع عمر إلى موافقة أبي بكر رضي الله عنهما

وهذه القصة تدل على جلالة علم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ودقيق استنباطه وقياسه، فقد وافق ذلك النص في قوله: إلا بحقها، وفي رواية إلا بحق الإسلام، فاستنبط أبو بكر رضي الله عنه من هذا الحق إيتاء الزكاة

ثانياً: أن حساب الخلق على الله عز وجل وأنه ليس على الرسول صلى الله عليه وسلم إلا البلاغ والحساب على الله عز وجل

فلا تحزن أيها الداعي إلى الله إذا لم تقبل دعوتك فإذا أديت ما يجب عليك فقد برئت الذمة والحساب على الله كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (لست عليهم بمسيطر* إلا من تولى وكفر* فيعذبه الله العذاب الأكبر* إن إلينا إيابهم* ثم علينا حسابهم) [الغاشية 22-26]فلا تحزن أيها الداعي إلى الله إذا رد قولك أو إذا لم يقبل لأول مرة لأنك أديت ما يجب عليك واعلم أنك إذا قلت حقاً تريد به وجه الله فلا بد أن يؤثر حتى لو رد أمامك فلا بد أن يؤثر وفي قصة موسى عليه السلام عبرة للدعاة إلى الله

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين

1437/1/13 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر