ﺟﺪﻳﺪ اﻟﻤﻮﻗﻊ

الدرس السادس عشر: الحلال والحرام

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 29 ذو القعدة 1436هـ | عدد الزيارات: 2555 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

"عَنْ أَبِيْ عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بِشِيْر رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَات لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاس، ِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرأَ لِدِيْنِهِ وعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ. أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً. أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهيَ القَلْبُ)رواه البخاري ومسلم

أهمية الحديث:

هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة قال أبو داود السجستاني: الإسلام يدور على أربعة أحاديث ذكر منها هذا الحديث وأجمع العلماء على عظيم موقعه وكثير فوائده، إذ قال جماعة هذا الحديث ثلث الإسلام ومن أمعن النظر فيه وجده حاوياً لجميعه لأنه مشتمل على بيان الحلال والحرام والمتشابه وما يصلح القلب وما يفسده وهذا يستلزم معرفة أحكام الشريعة وهو أصل في الأخذ بالورع وهو ترك الشبهات

لغة الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ: أي ظاهر وهو ما نص الله ورسوله وأجمع المسلمون على تحليله بعينه أو تحريمه بعينه

قوله صلى الله عليه وسلم: وبينهما أمور مشتبهات: جمع مشتبه وهو مشكل لما فيه من عدم الوضوح في الحل والحرمة

قوله صلى الله عليه وسلم: لا يعلمهن كثير من الناس: أي لا يعلم حكمها لتنازع الأدلة فهي تشبه مرة الحلال وتشبه مرة الحرام

قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات): ابتعد عنها وجعل بينه وبين كل شبهة وقاية

قوله صلى الله عليه وسلم:( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه): أخذ البراءة لعرضه من الظعن ولدينه من النقص

قوله صلى الله عليه وسلم:( ومن وقع في الشبهات): اجترأ على الوقوع في الشبهات التي أِشبهت الحلال من وجه والحرام من وجه آخر

قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمى): المحمي وهو المحظور على غير ما لكه

قوله صلى الله عليه وسلم:( يوشك): يقرب

قوله صلى الله عليه وسلم:( أن يرتع فيه): أن تأكل منه ما شيته

(محارمه): المعاصي التي حرمها الله

(مضغة): قطعة من اللحم بقدر ما يمضغ في الفم

فقه الحديث

قوله صلى الله عليه وسلم (إن الحلال بين وإن الحرام بين) في الحديث تقسيم للأحكام إلى ثلاثة أقسام:

أولاً: حلال بيّن كلٌّ يعرفه كاللباس غير المحرم وأشياء ليس لها حصر

ثانياً: حرامٌ بيّن كلٌّ يعرفه كالزنا، وشرب الخمر والسرقة وما أشبه ذلك

ثالثا: مشتبه لا يعرف هل هو حلال أوحرام وسبب الاشتباه فيها إما الاشتباه في الدليل، وإما الاشتباه في انطباق الدليل على المسألة، فتارةً يكون في الحكم، وتارةً يكون في محل الحكم فالاشتباه في الدليل هل صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يصح، وإذا صح الحديث فهل يدل على هذا الحكم أو لا يدل

فصحة الحديث من عدمه يسمى عند الأصوليين تخريج المناط ودلالة الحديث على الحكم يسمى تحقيق المناط

فقوله صلى االله عليه وسلم (لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ) يعني هذه المشتبهات ولم يقل: لايعلمهن أكثر الناس دل على أن كثير يعلم وكثير لا يعلم.

وأسباب الاشتباه عند الذين لا يعلمون:

أولاً: قلة العلم فقلته توجب الاشتباه لأن واسع العلم يعرف أشياء لا يعرفها الآخرون

ثانياً: ضعف الفهم بأن يكون صاحب علم واسع لكنه لا يفهم فهذا تشتبه عليه الأمور

ثالثاً: التقصير في التدبر والبحث ومعرفة المعاني بحجة عدم لزوم ذلك

رابعاً: سوء القصد بأن لا يقصد الإنسان إلا نصر قوله اتباعاً للهوى فيحرم الوصول إلى العلم

ثالثاً: حكمة الله عز وجل في ذكر المشتبهات حتى يتبين من كان حريصاً على طلب العلم ومن ليس كذلك

رابعاً: أنه لا يمكن أن يكون في الشريعة ما لا يعلمه كلهم لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يعلمهن كثير من الناس

خامساً: الحث على اتقاء الشبهات وهذا من الورع، لكن هذا مشروط بما إذا قام الدليل على الشبهة، أما إذا لم يقم الدليل على وجود شبهة كان ذلك وسواساً وتعمقاً مثل استعمال ماء في فلاة لإحتمال تنجسه فهذا ليس بورع بل وسوسة شيطانية والأولى التنزه عنه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في التمرة الساقطة روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها. ومعلوم أن المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تجوز له الصدقة لأنه من آل البيت

ومن أقول السلف في ترك الشبهات:

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً حجاباً بينه وبين الحرام

وثبت عن أبي بكر رضي الله عنه أنه أكل شبهة غير عالم بها فلما علمها أدخل يده في فيه فتقيأها

سادساً: أن الواقع في الشبهات واقع في الحرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ

سابعاً: قوله صلى الله عليه وسلم (ألا وإن لك ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه) الغرض من ذكر هذا المثل هو التنبيه بالشاهد على الغائب فإن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها وتتوعد من يقربها والخائف يبتعد عنها وغيره الخائف يقترب منها ولله سبحانه في أرضه حمى وهو المعاصي والمحرمات فمن ارتكب منها بالدخول في الشبهات يوشك أن يقع في المحرمات

سابعاً: صلاح القلب: يتوقف صلاح الجسد على صلاح القلب لأنه أهم عضو في جسم الإنسان وهذا لا خلاف فيه من الناحية التشريعية والطبية ومن المسلم به أن القلب هو مصدر الحياة المشاهدة للإنسان وطالما هو سليم يضخ الدم بانتظام إلى جميع أعضاء الجسم فالإنسان بخير وعافية واحتج الشافعية بهذا الحديث على أن أصل العقل في القلب وما في الرأس منه فإنما هو من القلب، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى "لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا" (الأعراف 179)أ.هـ

والذي يظهر من علم الطب والتشريح الحديث أن مصدر التفكير المباشر إنما هو في الدماغ، لأن الحواس إنما تتحرك بأوامر صادرة من المخ ومع ذلك فإن القلب يبقى هو المصدر الأصلي لحياة جميع الأعضاء ومنها المخ، فإذا ربط الحديث صلاح الجسد والفكر بالقلب، فقد ربطه بالمصدر الأصلي والآية أسندت العقل إلى القلوب؛ لأن القلوب هي المصدر البعيد، أما الدماغ فهو المصدر القريب المباشر للتفكير: لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا

والمراد من الحديث صلاح القلب المعنوي صلاح للنفس من داخلها حيث لا يطلع عليها أحد إلا الله، وهي السريرة، وفي كتاب (المعين على تفهم الأربعين) لابن الملقن الشافعي: أن صلاح القلب في خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين

والقلب السليم هو عنوان الفوز عند الله عز وجل، قال الله تعالى:" يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" (الشعراء 88)

ويتفرع على هذه الفائدة أنه يجب العناية بالقلب أكثر من العناية بعمل الجوارح لأن القلب عليه مدار الأعمال والقلب هو الذي يمتحن عليه الإنسان يوم القيامة قال تعالى :"۞ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ *وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ "(العاديات 9-10) وقال تعالى:"إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)" (سورة الطارق) فطهر قلبك من الشرك والبدع والحقد على المسلمين والبغضاء وغير ذلك من الأخلاق أو العقائد المنافية للشريعة فإن القلب هو الأًصل

ثامناً: في الحديث رد على العصاة الذين إذا نهوا عن المعاصي قالوا التقوى ها هنا وضرب أحدهم على صدره فاستدل بحق على باطل لأن الذي قال (التقوى ها هنا) هو النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم ومعناه في الحديث إذا اتقى ما ها هنا اتقت الجوارح لكن هذا يقول التقوى ها هنا يعني أنه سيعصي الله والتقوى تكون في القلب

والجواب عن هذه الشبهة والتلبيس بأن نقول لو صلح ما ها هنا صلح ما هناك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله

ومثال من الواقع: انكر شيخ على رجل قد حلق لحيته فقال هذا الرجل للشيخ الإيمان ها هنا وأشار إلى قلبه، فرد عليه الشيخ وقال إذا وجد الإيمان في القلب ظهر أثره ها هنا وأشار إلى لحيته

ومثال آخر: أنكر داعية على رجل قد وقع في معصية فقال هذا الرجل للداعية التقوى ها هنا وأشار إلى قلبه، فرد عليه الداعية بقوله الكفر ها هنا والنفاق ها هنا وأشار إلى قلبه

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1436/11/28 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 5 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 118 الجزء الثالث ‌‌هل الرسول أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه ؟ - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 116 الجزء الثالث حكم التوسل بالموتى وزيارة القبور - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 115 الجزء الثالث ‌‌حكم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 114 الجزء الثالث ‌‌إيضاح الحق في دخول الجني في الإنسي والرد على من أنكر ذلك  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 113 الجزء الثالث : تابع الدروس المهمة لعامة الأمة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر