الدرس العاشر: الإحسان

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 3 شعبان 1436هـ | عدد الزيارات: 2027 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوْسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيْدُ بَيَاضِ الثِّيَاب شَدِيْدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ الله،وَتُقِيْمَ الصَّلاَة، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ،وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البيْتَ إِنِ اِسْتَطَعتَ إِليْهِ سَبِيْلاً قَالَ: صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِيْ عَنِ الإِيْمَانِ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِالله،وَمَلائِكَتِه،وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ،وَالْيَوْمِ الآَخِر،وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِيْ عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: مَا الْمَسئُوُلُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ قَالَ: فَأَخْبِرْنِيْ عَنْ أَمَارَاتِها، قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا،وَأَنْ تَرى الْحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُوْنَ فِي البُنْيَانِ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثَ مَلِيَّاً ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُوله أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ) رواه مسلم

توقفنا في الدرس الماضي عند الإحسان إذ سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال صلى الله عليه وسلم الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك

ومراد النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان إتقان العبادات ومراعاة حقوق الله تعالى ومراقبته واستحضار عظمته حال العبادات

فالإحسان هو الإخلاص والإتقان أي تخلص في عبادة الله وحده مع تمام الإتقان كأنك تراه وقت عبادته فإن لم تقدر على ذلك فتذكر أن الله يشاهدك ويرى منك كل صغير وكبير

فعبادة الله لا تتحقق إلا بأمرين وهما: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي عبادة الإنسان ربه سبحانه كأنه يراه. عبادة طلب وشوق وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثاً عليها، لأنه يطلب هذا الذي يحبه، فهو يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرّب إليه سبحانه وتعالى

قوله صلى الله عليه وسلم "فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" أي: اعبده على وجه الخوف ولا تخالفه، لأنك إن خالفته فإنه يراك فتعبده عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، وهذه الدرجة عند أهل العبادة أدنى من الدرجة الأولى

فصار للإحسان مرتبتان: مرتبة الطلب، ومرتبة الهرب

مرتبة الطلب: أن تعبد الله كأنك تراه

ومرتبة الهرب: أن تعبد الله وهو يراك عزّ وجل فاحذره، كما قال عزّ وجل "وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ" آل عمران 30، وبهذا نعرف أن الجملتين متباينتان والأكمل الأول، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الثاني في مرتبة ثانية متأخرة، فالأكمل أن تعبد الله كأنك تراه فمحبتك لله تدفعك لعبادته وطاعته والتقرب إليه بالأعمال الصالحة

والمرتبة الثانية هي في قوله صلى الله عليه وسلم "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" أعبده على وجه الخوف فمن هم بفعل معصية من شرب خمر أو سرقة أو زنا أو نوم عن صلاة الفجر وهو يسمع الأذان يتذكر أن الله يراه فيقشعر جلده خوفاً من الله فيحجم عن المعصية ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فأهل هذه المرتبة هم السابقون المقربون المذكورون في قوله سبحانه في سورة الواقعة "والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين" فتلاحظ سياق الآيات في سورة الواقعة أن الله ذكر أصحاب اليمين ثم ذكر بعدهم السابقون فالسابقون أعلى درجة

لذا فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الدرجة الأولى "أن تعبد الله كأنك تراه" ثم ذكر الدرجة الثانية وهي الأقل "فإن لم تكن تاره فإنه يراك" فالأولى الدافع للعبادة حب الله والثانية الدافع في الإحجام عن المعصية الخوف من الله

فمراتب الإيمان ثلاثة: المرتبة الأولى الإسلام وأركانه خمسة ذكرها المصطفى لجبريل عليه السلام ثم ذكر المرتبة الثانية وهي أعلى من الأولى وهي الإيمان والدليل على أن الإيمان أعلى من درجة الإسلام قول الله تعالى "وقالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلامنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" ثم تأتي الدرجة الثالثة وهي الأكمل من الثانية وهي الإحسان وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل

فنعم مقام العابدين وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تاره فإنه يراك

غير أن هذا المقام العظيم الجليل لا يحتاج منك أن تجهد نفسك وتشتت قلبك في البحث عن شيء لن تدركه وهو تخيل صورة الله عز وجل وإنما يحتاج منك أن تستحضر من صفات الجلال والكمال والجمال لله عز وجل ما يعينك على حضور القلب في عبادته سبحانه

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله وقوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه" يشير إلى أن العبد يعبد الله على هذه الصفة ؛ وهي استحضار قربه ، وأنه بين يديه ؛ وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم ، كما جاء في رواية أبي هريرة "أن تخشى الله كأنك تراه " رواه بهذا اللفظ مسلم

ويوجب أيضا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها. (جامع العلوم والحكم 104/1)

وقال ابن القيم رحمه الله: ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كلها فإنه يوجب الحياء و الإجلال والتعظيم والخشية والمحبة والإنابة والتوكل والخشوع لله سبحانه والذل له ويقطع الوسواس وحديث النفس ويجمع القلب والهم على الله

فحظ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد>

وقد أشار أهل العلم إلى جملة من الأعمال والأحوال ، متى اجتهد العبد في تحقيقها كانت له عونا على القرب من ربه عز وجل ، وبحسب سعي العبد في القرب من ربه عز وجل ، يكون قرب الله تعالى منه ؛ فأقلَّ إن شئت أو استكثر

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا تحقيق الإخلاص والتوحيد الذي من حققه كان أقرب الخلق إلى الله ، وهو تحقيق كلمة الإخلاص " لا إله إلا الله " الاستقامة ص 195 أ.هـ

وفي الحديث إشارة إلى مقام الإخلاص وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه وإطلاعه عليه وقربه فإذا استحضر العبد هذا في عمله فهو مخلص لله تعالى لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله وإرادته بعمله

وقد وردت الأحاديث الصحيحة باستحباب استحضار هذا القرب في العبادات كقوله صلى الله عليه وسلم "إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه ، أو إن ربه بينه وبين القبلة" رواه البخاري ومسلم، وقوله "إن الله قبل وجهه إذا صلى" رواه البخاري ومسلم، وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه "إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريبا" وحديث أبي هريرة رضي الله عنه "أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت شفتاه" رواه ابن ماجه وصححه ابن حبان

وقال ابن الأثير في حديث الإيمان قال في الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه أراد بالإحسان الإخلاص وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام معاً وذلك أن من تلفظ بالكلمة وجاء بالعمل من غير نية إخلاص لم يكن محسناً ولا كان إيمانه صحيحاً

والخلاصة: أن الإحسان من مراتب الدين وهو أخص من الإيمان والإسلام وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه يشتمل على مقامين أحدهما مقام المراقبة وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله لأن استحضاره ذلك يمنعه من الالتفات لغير الله

الثاني مقام المشاهدة وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدته لله بقلبه فيثور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان وهذا هو حقيقة الإحسان ويتفاوت أهله فيه بحسب بصائرهم

والإحسان يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم ويوجب أيضاً النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها

فينبغي للعبد أن يستحضر قرب الله ومعيته في العبادة ليصل إيمانه إلى درجة الإحسان وهي أعلى المراتب كما ذكرت ذلك آنفاً ويعود نفسه على مراقبة الله في السر والعلن ويضع بين عينيه أن الله يراه في كل عمل يعمله صغير أو كبير وبذلك يسلم من الرياء ويكون عمله لله خالصاً صواباً مرتقياً إلى أعلى الدرجات وهي الإحسان

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1436/8/3 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 7 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 106 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 105 الجزء الثالث ‌‌نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 104 ‌‌ الجزء الثالث حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 103 الجزء الثالث ‌‌الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 101 الجزء الثالث ‌‌حكم من مات من أطفال المشركين - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر